أي قراءة لتفسير تراجع العالم عن دعم الثورة السورية، وتجاهله المتزايد لجرائم نظام عائلة الأسد وحلفائها التي تجاوزت كل التوقعات، لا تقف عند الأداء السياسي والعسكري والخدمي السيئ للمعارضة كسبب رئيسي لهذا التراجع، هي نوع من القراءات التي تنقصها المتابعة الجادة والمعرفة بتفاصيل أداء هذه المعارضة التي تدعي تمثيل السوريين، أو أنها كتابة تحاول إبعاد الشبهة عن صاحبها، كون كتابها كانوا وما زالوا من المشاركين في قيادة هذه المعارضة، بل إن أغلبهم من أصحاب القرار فيها، وبعضهم الآخر يزعم أن الثورة خرجت من تحت إبطيه!
لقد فتح العالم أبواب مقراته الرئاسية، وقصور ممالكه لهذه المعارضة، وأعلن -مبكراً- انحيازه للشعب الثائر من أجل حريته وكرامته، وصار قادة هذه المعارضة يتصلون بوزراء خارجية الدول أكثر من اتصالهم بزوجاتهم، أو عشيقاتهم اللواتي يتزنرون بهن في كل جولة، سواء كان البيت الأبيض محطتها أو الكرملين أو الإليزيه، ووصل الاعتقاد ببعضهم إلى أن هذه الأبواب فتحت له لتاريخه السياسي المليء بالبطولات، أو لحضوره الكبير وخدماته الجليلة للثورة، متناسياً أن الشعب السوري هو مَن فتح هذه الأبواب لهم، وأنه دفع ثمناً من الدماء لم يسبق أن عرف تاريخ الثورات مثيلاً له، تجسَّد بملايين المهجرين والشهداء الذين قضوا ببراميل النظام المجرم، أو بزوارق الموت، ومئات آلاف المعتقلين، وتدمير النظام المجرم شبه الكامل للمدن السورية.
لقد قدم العالم للمعارضة السورية مليارات الدولارات؛ كي تقود الشعب إلى بر الأمان، وتؤمن له حاجاته التي تكفل صموده، واستمرار احتضانه للثورة إلى أن يتم الخلاص من نظام عائلة الأسد المجرم، وكم من مرة أعلن الأميركيون أنهم قدموا نحو خمسة مليارات دولار للمعارضة، التي لم تنكر الرقم، وأقل منها بقليل قدَّم السعوديون والخليجيون عامة، والأوروبيون والأتراك، ومع ذلك لم تقدم المعارضة للشعب السوري من هذه الأموال شيئاً يذكر، وكثرت حكايات الفساد المالي التي أصبحت سمة أداء هذه المعارضة، سواء في شقها السياسي، أو العسكري، أو الخدمي، مما أسهم في جرّ السوريين من جحيم إلى آخر.
ينتقد بعض المعارضين الائتلافيين ممارسات الآخرين من زملائهم متهماً إياهم بحرف الثورة عن مسارها، وبعضهم الآخر يضع خلاصة خبرته (هههه) ناصحاً، ومعتبراً أن عدم سماعها هو السبب فيما نحن فيه، وبعضهم يناقش مشكلات يعتقد أن لا بد من حلها لنجاح الثورة، رغم أن الشعب المكتوي بنار الإجرام الأسدي ليس معنياً بها، قدر اهتمامه بلقمة عيشه وأمانه المفقود، وبعضهم يتسلل بين فترة وأخرى بمقال يرفض فيه التدخل الأجنبي وهو من كان من رواد الدعوة إليه.
كل هذا (البعض..)، يتحدث عن غيره متناسياً -عن عمد- أنه كان مشاركاً في وصولنا إلى هذه الحالة الصعبة، سواء بأدائه السياسي المراهق السطحي، أو بفساده المعلن.
لقد وصل الأمر ببعض هذا (البعض)، الذي راهنّا عليه كثيراً، لاعتقادنا أن بعض صفحات ماضيه السياسي المضيئة (..!!) -وهو ما يفتقده آخرون في المعارضة- قد تكون كفيلة بجعله صوتاً نظيفاً بعيداً عن هذا “الوخم” الذي أصبح عنواناً للمعارضة السورية.. وصل الأمر به أن يدبج مقالاً ردحياً عن “لقاليق المعارضة”، متناسياً أخطاءه في الفترة التي تصدر فيها -وما زال- العمل المعارض، ابتداء بتبشيراته “الفافوشية” على الفضائيات، وتسويقه لفكرة قرب الخلاص من نظام الإجرام، وكان حدد فترتها قبل أن ينقضيا، ولكن ما زال النظام المجرم يفتك يومياً بالسوريين.
كما نسي لجوءه إلى رجل أعمال قريب من النظام وعقليته؛ ليقدم له مئات آلاف الدولارات لإنشاء جسم سياسي، ديمقراطي سرعان ما ذاب وانتهى بمجرد وصول صاحبنا، وبعض “أنفار الديمقراطية!!” إلى عضوية الائتلاف (الحاكم)، ويتناسى هذا (اللقلوق) دعوته المبكرة إلى تشكيل كتائب طائفية مسيحية، وأنه هو من طلب دعماً لإعلامي في أنطاكية تبين أنه رجل مخابرات، وهو مَن تحدث عن ضابط مستعد لقصف قصر بشار الأسد في نفس الساعة التي يبدأ فيها مؤتمر جنيف 2، وحين يئس من الحصول على الدعم الذي طلبه، اختفت سيرة الضابط من أصلها، وتبين أن لا وجود لهذا الضابط الافتراضي، والأدهى أنه هو وزميل آخر له طلبا من السفير الأميركي روبيرت فورد “عدم دعم أميركا للثورة؛ لأنها ثورة إسلامية وضد العلويين والمسيحيين”!
أكثر من 120 دولة أعلنت في تونس أنها صديقة للشعب السوري، وكثير منها أغلق سفاراته في دمشق، وقدم التسهيلات للمعارضين، وقدم دعماً مادياً وسياسياً، لكنهم فوجئوا بمعارضة لا ترى حتى أنفها، وغير معنية بشعبها، ولا تعرف عنه شيئاً، وتفهم “العمل المعارض” على أنه إسهال بيانات “ع الطالعة وع النازلة”، وسفر في درجات رجال الأعمال، وتأمين موافقات لجوء لعائلاتها وأزلامها، والاتجار بالمعونات والذخائر والأسلحة، وعدم تقديم الدعم للقوى الوطنية الشابة التي فجرت الثورة، وتركها بين أنياب أجهزة المخابرات من كل حدب وصوب، توظفها في منظمات استخبارية، تحت مسميات إعلامية ومدنية، فغرقوا فيها، بعضهم عن دراية، وبعضهم عن جهل؛ لينتهي لاجئاً ذليلاً نداباً نواحاً!
قبل عامين زرت عضو الكونغرس الأميركي جيمس ماكغفرن في مكتبه طلباً لمساعدته بشكل علني -أقول علني- لإقامة معرض فني لصور الدمار والقتل الذي قام به نظام الأسد المجرم، يبدأ من جدران مبنى الكونغرس، وأمام البيت الأبيض؛ لينتقل بعدها إلى عدد من المدن الأميركية، ووضعت أمامه بعض هذه الصور.. ما زلت أذكر استغرابه من أمرين؛ أولهما أين الائتلاف من أنشطة كهذه تخاطب الرأي العام الأميركي الذي يحدد سياسة إدارته، والأمر الآخر لماذا لا يقدم الائتلاف الدعم؟ أين هي الأموال التي نرسلها لهم؟ وماذا يعمل مكتبهم في واشنطن ومكتبهم الآخر في نيويورك؟.. ولا أنسى حجم دهشته الكبيرة، التي ارتسمت على وجهه عندما قلت له: إن الائتلاف دفع ثلاثة ملايين يورو ثمناً لطباعة جوازات سفر لا قيمة لها، وضعت في الأدراج وقسم كبير منها تم بيعه للسوريين، الذين قبض على بعضهم باعتبارها جوازات مزورة.. واتسعت دهشته أكثر عندما أجبته عن سؤاله:
ألم يحاسبوا على هذا؟!
لا.. مَن الذي سيحاسبهم؟.
وفي جلسة في واشنطن مع عدد من الزملاء والأصدقاء الإعلاميين، استغرب أحدهم تشكيلة الوفد الذي قابل أوباما وطاقم إدارته، وكيف أنهم التقوا بأحد أعضاء الوفد من المحسوبين على قطاع المفكرين، وكيف أنه لم يترك “ستراً مغطى على زملائه”.. لقد استغربوا هذا النمط “الدسائسي الرخيص” الذي يحكم تصرفات هؤلاء المعارضين، وزاد استغرابهم أكثر لدرجة أن أحدهم قام “مرعوصاً” من مكانه ودار حول الطاولة مدهوشاً غير مصدق، عندما ذكرت له أن بعض أعضاء الائتلاف المقربين من المخابرات التركية، الذين يرفعون لها التقارير أولاً بأول، تمكنوا من استصدار أوامر منع دخول بعض زملائهم إلى الأراضي التركية!!.
كان المفكر الكبير جلال صادق العظم عضواً في الائتلاف في بدايات تأسيسه، ومع حضوره للاجتماعات الأولى، ووقوفه على أمور يندى الجبين حياء من ذكرها، قدم استقالته، وخرج من الائتلاف غير آسف.. اعتقد أنه خرج لاقتناعه أنه لا يمكن لأي قوة في العالم إصلاح جسم كهذه طفيلي في الثورة، رغم أنه حاز على دعم شعبي قل نظيره، لكن ومنذ الأيام الأولى لأدائه، انفض السوريون عنه واقتنعوا أنه ليس الجسم الذي يريدونه، لقد تأسس الائتلاف من “خلط عباس مع دباس”، ومن أشخاص لا تاريخ سياسي لهم، وأجسام وتنظيمات تمت “فبركتها” على عجل لا وزن لها في الشارع السوري، ومن شخصيات مشكوك بولائها للثورة، بل إن بعضها لم يقطع علاقته مع النظام حتى الساعة، بما فيها أشخاص انضموا في التوسعات غير الضرورية، التي جرت لاحقاً تحت حجة “تحقيق أكبر تمثيل للشعب السوري؟؟!!”.
بربكم أي قواعد شعبية، أو تجمعات وازنة يمثلها أمثال أحمد رمضان ومصطفى الصباغ ومصطفى النواف وفايز سارة ونورا الأمير وهادي البحرة وخالد خوجة ورياض الحسن وخالد الصالح ومحمد سرميني وعشرات غيرهم، جلهم لا يعرف حدود محافظة الرقة التي ساهموا في تسليمها إلى داعش!
اليوم وفي وقتهم الضائع وهم ينتظرون دعماً لن يأتي، وريثما تنتهي عقود إيجارات مكاتبهم، تراهم مشغولين بأمور لا ناقة ولا جمل للناس فيها، سواء ازداد حجم الكوتة النسائية، أو لم يزد، وسواء ازداد عدد الأعضاء أم لم يزد، فيما القتال على أشده في معارك مفصلية وهامة، يخوضها أحرار حلب وإدلب وحماة والقلمون وغيرها من المناطق السورية المشتعلة!
هافينغتون بوست عربي – عمار مصارع