النُّزوح Decampment: اسم مصدر من الفعل نَزَحَ، ونُزُوحُ السّكّان: خروجُهم وبُعدهُم عن مقر سُكناهم وديارهم وأوطانهم. وكل تاريخ النّزوح لدى العرب المعاصرين قسريّ وبالقوة والبطش، أو أخيراً بالإرهاب وبشاعة الأوضاع، ويعني ضمناً: الهجرة التي يقوم بها الأهالي هرباً من سطوة محتلٍّ غاصب، أو بشاعة القصف والأعمال الحربيَّة، أو أخذ الثارات، أو فرض السيطرة واستخدام العنف والوسائل القسرية التي تطاول الأرواح والأعراض والممتلكات.. وهي عوامل لا إنسانية أبداً، تدفع الناس إلى الانتقال قسريًّا نحو أماكن مجهولة، حتى غدا النزوح حالة عامة وجماعية، فتعرف بالهجرة الجماعيّة، بسبب الحرب أو البطالة أو المجاعة أو الحصار أو القصف أو البطش.. واضطهاد الأقليات العرقية، كما هو حال الروهينغا في ميانمار بورما، وكما حال السوريين في هروبهم من جحيم القصف بالبراميل، وكما حال العراقيين الذين هربوا هروباً جماعياً من الموصل، من جرّاء اجتياح “داعش” المدينة وتوابعها قبل سنتين.
ولعل من أشهر الحالات التي وصلت أعداد النازحين بالآلاف المؤلفة عن أوطانهم، نتيجة ما عاناه كل من الموريسيكيين في الأندلس إبّان القرن السادس عشر، كما كان للنزوح تأثير عميق على العالم في القرون الثلاثة الأخيرة قبل القرن العشرين، عندما ترك ملايين من الأسر الفقيرة أوروبا، وتوجهوا إلى الولايات المتحدة وكندا والبرازيل والأرجنتين، وباقي دول أميركا اللاتينية، وأستراليا ونيوزيلندا. وهناك آلافٌ مؤلفةٌ من النازحين السوريين الذين هاجروا إلى أميركا الجنوبية ومصر إبّان القرن التاسع عشر. كما شهدت عقود القرن العشرين أكبر حركة استئصال بشري للفلسطينيين من وطنهم وتشريدهم، قبل تأسيس الكيان الصهيوني وبعده.. وشهد القرن المذكور نزوح الروس والأرمن والألمان الشرقيين والكوريين وغيرهم، كما هي مآس حدثت في أنغولا وإثيوبيا وموزامبيق والصومال وأفغانستان، وراوندا وبورما وكمبوتشيا الديمقراطية ولاوس وفيتنام الشمالية والعراق وجنوب اليمن وكوبا والصين.
ويقول أنطونيو غوتيريش، وهو المفوض السامي لشؤون اللاجئين إن مشكلة اللاجئين خارج أوطانهم تشابه مشكلة النازحين في داخل أوطانهم، فهؤلاء يفتقدون الحماية، ويتعرّضون للتعسف والاضطهاد والجوع من حكوماتهم التي يناصبونها العداء بسبب فسادها وظلمها وانحيازاتها، وربما تعرّضوا للقتل والتعذيب من قوىً مناوئة لأسباب ثأرية، قائلاً إن كل يوم يمر ومشكلات النازحين الصعبة تتفاقم بكل مخاطرها، والعالم كله صامتٌ إزاء هذه الظاهرة التي سيكبر خطرها يوماً بعد آخر.
النازحون واللاجئون العرب اليوم
ألف العرب هذا المصطلح منذ أكثر من نصف قرن، بسبب نزوح الفلسطينيين عن وطنهم، وتفرّقهم في الشتات بعد قيام دولة إسرائيل، وغدت كلمة “النازحين” مفردةً مألوفةً في الحياة العربية، وكأنها لم تكن بفعل قسري وظلم الإنسان بإخراجه من أرضه وبيته ومدينته أو قريته وحرمانه من وطنه وتشتيته على نحو ممنهج! كثرت أعداد اللاجئين والنازحين، بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، ووصلت، حسب تقرير المفوضية العليا للاجئين، التابعة للأمم المتحدة لعام 2016 إلى رقم قياسي جديد، تجاوز 65 مليون إنسان، بعد أن كان 60 مليوناً في 2015، وهذا عدد مرشح للزيادة، بفعل تفاقم الحروب والنزاعات والإرهاب والبطش العرقي والصراع الطائفي، وفشل العالم في محو الاضطهاد والقمع في جملةٍ من بيئات العالم الساخنة، ناهيكم عن زحف المشكلات الإرهابية الدموية إلى مجتمعاتٍ ودولٍ مستقرة، وتظهر الاحتمالات عن انفجار صراعاتٍ على نحو دموي في أكثر من منطقة.
ويعلمنا التقرير أن نصف هذا الرقم المذهل من الأطفال الأبرياء الذين لا يعرف مصيرهم في المستقبل. وقال الأمين العام للمجلس النرويجي من أجل اللاجئين، يان إيغيلاند، أحد موقّعي تقرير المرصد الذي يتخذ مقراً له في جنيف، مبدياً أسفه أن “هذا هو أعلى رقم يسجّل في التاريخ، ويمثل ضعف عدد اللاجئين في العالم. وهو يوازي تعداد سكان نيويورك ولندن وباريس والقاهرة معاً، وهم لا يأخذون معهم لدى فرارهم، وغالباً وسط الذعر، سوى الأغراض القليلة التي يمكنهم حملها، وينطلقون في رحلة محفوفة بالغموض. وبكلام آخر، اضطر 66 ألف شخص إلى مغادرة بيوتهم يومياً عام 2015”.
أخذ خط بيانيٌّ يتصاعد بجنون منذ عام 2010، في أعداد النازحين بسبب اندلاع خمسة عشر نزاعاً دموياً مسلحاً في السنوات الست المنصرمة، شملت سورية وليبيا والعراق واليمن وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى والصومال ونيجيريا وميانمار.. إلخ، ناهيكم عن صراعاتٍ مزمنةٍ مثل الصراع العربي الصهيوني. تتفاقم المشكلة على الرغم من تحذيرات المفوضية العليا، إلا أن العلاجات لم تتجانس مع حجم الصراعات، علما أن نصف النازحين في العالم هم من العرب، وكان الرقم 51 مليون إنسان عام 2014، وكان الرقم 37.5 مليون لاجئ ونازح في 2013.. وكان الرقم 27.5 مليون في العام 2010، وهو أعلى رقم منذ حركة النزوح، إبّان التسعينيات السابقة. وعلى الرغم من ادعاءاتٍ تظهر هنا وهناك عن تراجع العنف وتحسّن الأوضاع في العراق وأمكنةٍ ساخنةٍ أخرى، إلا أن الأمور تزداد سوءاً.
علاجات لا تناسب حجم الصراعات
سيعرّض انضمام أكثر من ستة ملايين إنسان إلى قوائم اللاجئين والنازحين العالم لمزيدٍ من المآسي وعمليات الإرهاب وتفاقم المشكلات الصعبة، جرّاء عوامل البؤس والفقر والجوع والافتقار إلى أبسط شروط الحياة الإنسانية، وخصوصاً في دواخل الأوطان المشتعلة سياسياً واجتماعياً، فالمجتمعات تتمزّق جراء استفحال المليشيات والعصابات الإرهابية، وجرّاء ما يجري من سحقٍ للأبنية وبيوت الناس وأسواقهم بتأثير قصف طائرات الحكومات المحلية أو القوى الدولية. وسوف لن تنتهي عواقب هذا الماراثون في كل من سورية والعراق ما لم تتوحد الجهود الدولية والعربية لإيجاد تسوياتٍ سياسية للحروب والأزمات، وعدم إيجاد بؤر توتر وصراع جديدة في العالم، وسحب تدخل الدول الإقليمية ومرتزقتها، وتبديل الحكومات الاستبدادية وتجميد عمل الأحزاب الدينية والطائفية، ووضع حد للقمع والعنف المنظم بحل المليشيات وإيقاف الاضطهاد المنظم في البلدين الغارقين في المشكلات.
ومن دون ذلك، سيغرق العالم بموجات عنيفة من ملايين اللاجئين والنازحين، خصوصاً عندما نعلم أن أكثر من نصف عدد النازحين في العالم عام 2015 والذين بلغوا بحدود 50 مليون إنسان، وهو رقم قياسي في التاريخ، هم من سورية والعراق واليمن. والنصف الآخر من أفغانستان وإفريقيا الوسطى وكولومبيا والكونغو الديمقراطية ونيجيريا وجنوب السودان وأوكرانيا. وجاء ذلك، في تقرير نُشر الأربعاء 11 مايو/أيار 2016. كما يشير التقرير إلى نزوح 19,2 مليون شخص عام 2015، بسبب الكوارث الطبيعية، مع تسجيل أكبر أعداد في الهند والصين ونيبال. وتسببت النزاعات والكوارث الطبيعية معاً بـ27,8 مليون نازح جديد داخل بلادهم عام 2015 عدداً إجمالياً.
نكبة العراقيين والسوريين
وأكد التقرير السنوي أن نزوح السوريين قد تصاعد، منذ نهاية عام 2010، إثر انفجار الثورة السورية بوجه النظام الحاكم، خصوصا بعد استخدام هذا “النظام” أقسى الأسلحة ضد شعبه، ولم يقتصر “النظام” على استخدام البراميل من الجو في قصف المدن السورية، بل يستخدم الطيران الروسي الأسلحة المحرّمة ضد السوريين. أما حركة نزوح العراقيين فقد بدأت منذ العام 2005 بفعل الحرب الأهلية الطائفية، وتفاقم أمر النزوح، ووصل إلى ذروته في 2014 بفعل اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) واحتلاله الموصل ومناطق عراقية أخرى انسحبت منها القوات العسكرية الحكومية، بمؤامرة متخاذلة وجريمة نكراء، ساهم فيها رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، الذي طالب العالم بمساءلته ومعاقبته.
وتذكر التقارير التي تضمنت معلومات مخيفة عن سوء الأوضاع في العالم هذه السنة أن ستة من البلدان العربية هي الأسوأ أحوالاً في العالم، إذ تصدرت سورية والعراق القائمة، وأظهرت التقارير نسباً مخيفة في عدد النازحين وبالملايين من السوريين والعراقيين، إذ أفرغت مدن كاملة من سكانها الآمنين، وكان هروبهم، باتجاهاتٍ مختلفة، متشردين مع معاناتهم وخذلانهم وإحباطهم وجوعهم وأمراضهم وخوفهم من المجهول، فمنهم من لم يزل في العراء، ومنهم من يعيش في مخيماتٍ بائسة، ومنهم من خسر حياته في البراري والبحار، ومنهم من هاجر ويعيش أسوأ الظروف في بلدان مجاورة أو بعيدة.
المشكلة أن بلداناً معينة أصابتها الحروب الأهلية والداخلية، مع انعدام كامل للأمن وعدم اكتراث السلطات في البلاد لأحوال المواطنين التعساء. ووقعت مناطق كاملة تحت سطوة عصابات إرهابية وبشاعتها، وجماعات متطرفة، أو شبيحة ومرتزقة، أو عصائب طائفية مغالية في كراهيتها، فكيف ستكون الأوضاع في ظل صراعاتٍ دائرة تقف وراءها حكومات وسلطات ودول مع تنفيذ أجندة معينة؟ ولم تكن هناك أية إدارات ولا أية خدمات لرعاية النازحين الذين فقدوا ممتلكاتهم وأموالهم وحاجاتهم. ناهيكم عما يتعرّضون له من إرهاب وتوحش وقسوة من مليشيات ومافيات ترتبط كلها بتنفيذ سياساتٍ معينة. تقع آلافٌ مؤلفة من السوريين والعراقيين بين فكي كماشة، فهم إزاء بطش عصابات الإرهاب المنظمة ونيرانها، وبين مليشيات النظام الحاكم وشبيحته ومرتزقته الغرباء.
المشكلة بنيوية معقدة
مشكلة النازحين في كل من سورية والعراق بنيوية ومعقدة جداً، إذ تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية، كما أنها مجتمعية وسياسية. وتتنازع في الأرض والجو قوى خارجية، من أبرزها الأميركان في العراق والروس في سورية. كما أنها “مشكلة” تتلاعب بها قوى إقليمية متنوعة مثل إيران وتركيا، فهي لا تنحصر في إطار عامل معين، يمكن القضاء عليه وحده، كما أن المشكلة ليست منحصرة في تحرير مدينة، أو استعادة منطقة، أو ملاحقة مجموعات إرهابية، بل ماذا أعدّ من وسائل ووسائط لمساعدة النازحين وتأمين حياتهم، وما الذي أعدّ لما بعد استتباب الأمن.
يتعرّض الإنسان، اليوم، في كل من العراق وسورية وليبيا والسودان واليمن (وقبلها الجزائر) إلى أبشع المآسي التي تسببت فيها السلطات والأحزاب والقوى الحاكمة عقوداً، إذ وصلت هذه البلدان إلى حالات متشابهة ومتوازية من البؤس والشقاء. والسؤال المهم والأساسي: لماذا تتعرّض اليوم هذه البلدان العربية إلى ما تتعرّض له اليوم، وخصوصا العراق وسورية وليبيا؟ من سمح للإرهاب أن يمتد فيها على هذا النحو البشع والمتوحش؟ من سمح للقوى الخارجية والإقليمية أن تعبث بشؤون هذه البلدان؟ ما طبيعة أنظمة الحكم القهرية التي بقيت تحكم هذه البلدان منذ خمسين عاماً؟ ما دور التدخلات الخارجية في كل من العراق وسورية وليبيا، بحيث انتهكت مجتمعات هذه البلدان، بوجود أنظمة حكم دكتاتورية عاثت في هذه المجتمعات فساداً، وتمزق نسيج مجتمعاتها بشكل يفوق التصور؟
بدت التمزقات التي حدثت في نسيج مجتمعات كل من سورية والعراق وليبيا (وقبلها الجزائر والسودان) مرعبةً ومخيفةً، ولا يمكن تخيلها أبداً، وكان الوعي بها قد انعدم تماماً من جرّاء السياسات القمعية التي مورست فيها، وخصوصا في عالمنا السياسي وواقعنا الثقافي. وهي حالاتٌ تبدو للمفكر فيه أنها مرسومة ومخطط لها بدقة، بدليل وجود أدلة دامغةٍ وشاهدةٍ على مجريات الأحداث التي مهما خفيت، فإنها تبقى بارزةً للعيان لكل من يبحث في سيرورتها، ويتأمل في تفاعلاتها أو يتجذر في فهم تداعياتها الخطرة.
ليست مجتمعاتنا العربية شريرة بالمطلق، حتى تجري عمليات إبادة واستئصال وتطهير، بمثل هذا الذي نشهده اليوم، ومن أقرب المقربين، ومن أعلى رؤوس المسؤولين، إذ تشترك السلطات الحاكمة في سحق المجتمعات بأساليب ضارية، وهي تغض الطرف عما يجري من شناعاتٍ بحق العباد، وكأن شيئاً لم يكن. وعلينا هنا أن نسأل: من سمح للتيارات الدينية والطائفية أن تنمو وتزدهر بمثل هذه التنظيمات البشعة التي نجحت في فرض هيمنتها وسيطرتها على مجتمعاتنا؟
العربي الجديد – سيارة جميل