إن التجارب التي عاشها السوريون خلال الحرب تحكي من قصص المعاناة والتشرد الشيء الكثير، ولعل مسألة نزوح السوريين داخل سوريا تعد من أكثرها مأساوية، حيث لم يسلط الضوء كثيراً على هذه المسألة.
فكلما تحررت مدينة أو قرية على أيدي الفصائل المعارضة، سارع النظام لتدمير بنيتها التحتية وتهجير سكانها تحت حال القصف العشوائي بحجة أن من سيطر عليها “إرهابي”، مما يدفع قاطنيها المدنيين لترك كل ما يملكون للنجاة بأرواحهم.
28مارس 2015 ، مآذن المساجد تصدح بالتكبيرات، وسائل الإعلام تتناقل الأحداث مباشرة، العالم كله ضج بالخبر المفجع للنظام ” محافظة إدلب محررة بالكامل ” بعد أن حصنها النظام لأربعة أعوام، أب يحتضن ابنه العائد إلى بيته بعد أربع سنوات من النزوح، زغاريد الأمهات تعلو على أصوات الرصاص، سيارات تجول مرددة شعارات الحرية فرحاً، كلها مشاهد استوقفت قلوب المغادرين.
“أم محمد” من مدينة إدلب تقول:” خرجت مسرعة من المنزل مع ابني الوحيد تحت وطأة القصف بالصواريخ لا أدري أين وجهتي، شعرت بضيق في صدري، إلا أنني حين وصلت لبر آمن كما ظننت تفاجأت بمئات العائلات قد سبقوني وأشكالهم توحي بخوفهم الكبير”.
معظم سكان مدينة إدلب خرجوا منها لفترة قصيرة نازحين لقرى ومدن أمنة نسبياً، عائدين بتجارب جديدة من وحي النزوح، فكثير من المناطق التي لا يعرف الناس سوى أسمائها رغم أنها حولهم، شاركوا سكانها بعاداتهم ونمط معيشتهم، متناسين تلك النزعة الفوقية عن أبناء الريف بمجرد التعرف على بساطتهم، هذا غير أن جو التعاون بتأمين مستلزمات الحياة في ظل ظروف الحرب ساد بشكل كبير، فضلاً عن تقاسم الحاجات الأساسية كالخبز والماء بالتساوي بينهم ضمن المناطق المحاصرة من قبل النظام.
أبو جهاد يقول:” لم أستطع الخروج مع عائلتي من إدلب فور تحريرها فجلست متسائلا هل هم بخير، وأين يمكثون بقلق كبير؟، لكني عندما تمكنت من الذهاب إليهم وجدتهم براحة تامة متكيفين مع جيرانهم الذين أحضروا لهم بعضاً من نواقصهم بما أنهم خرجوا دون أن يأخذوا معهم أي حاجة تعيلهم”.
ناهيك عن حالة الذعر التي واكبوها معاَ عندما يسمعون صوت صفارة الإنذار التي توحي بقدوم الطائرة اتجاههم، فيهمون راكضين لأي ملجأ قريب، فأحياناً من الممكن أن تجد أهل البناية في الطوابق العليا كلهم مجتمعين بغرفة في ذاك الملجأ، وبحالات عدة يبقى بعضهم نائمين، ويقابلهم الجار بالترحيب.
ولاء فتاة صغيرة تقول بعد عودتها لمنزلها بمدينة إدلب :” لقد اشتقت للحارة التي لعبت فيها مع صديقاتي لوقت طويل، وأتمنى أن أعود وأراهن ونمرح مجدداً ونأكل السكاكر”.
عشرات العائلات آثرن البقاء في الأماكن التي نزحوا إليها بعد أن دمرت آلة القتل الأسدية كل أملاكهم وسلبت حرياتهم، فوجدوا بمسكنهم الجديد ملجأ يخفف من ذكرياتهم القاسية.
أم سليم لديها أربعة شباب انتقلت للعيش في مزرعة ببلدة صغيرة قرب مدينة إدلب منذ أربع سنوات تقول:” هجرني النظام بعد اقتحامه لمدينة إدلب لأن أبنائي كانت أسمائهم مطلوبة لعدة أفرع سياسية بتهمة أنهم مسلحين، وبعد تحريرها لم يكن الأمر سهلا أن أترك خلفي كل ما بنيته أو أحببته في تلك البلدة، وأعود لأكون حياة جديدة معقدة، لا أشتم فيها رطوبة التربة أو أتأمل خضرة الأشجار”.
أخيراً ليس آخراً، وجد الشعب السوري نفسه مستفيداً حتى من عذاب الحرب ومتأقلماً معها رغم كل القمع، فاللهفة التي شعر بها عند انتقاله من مكان لآخر داخل سوريا، جعلته يشعر بقيمة الأخوة بين السوريين في بلدهم رغم كل محاولات النظام لاقتلاعهم منها.
المركز الصحفي السوري ـ محار الحسن