عندما تسمع سوريين، أو تقرأ نصوصهم، ينتابك إحساس عارم بسوداويّةٍ شديدةٍ، تطفح من أرواحهم. نحن في حالة شعبٍ ابتلي بنظام سوبر- فاشي، مدعومٍ من كلّ دول العالم تقريباً، بدءاً من إيران وروسيا، وصولا حتى أميركا، بالإضافة إلى دول تكمل معروفها مع السوريين في الاتجاه نفسه من تحت الطاولة، كدول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى دول عربيّة وإقليميّة مجاورة. يتجلّى فيض السوداوية هذا مغلِّفًا ومخترِقًا تعبيرات السوريين والسوريّات في جمل من قبيل “العالم كلّه تركنا” و”العالم ساقط”. وهذا العالم ساقط بالفعل. لا غرو في ذلك، لكن تيمة الفقدان التام للأمل باتت تشتدّ، لتصل إلى حدّ النكوص التام ضد كلّ ما تمّ تحقيقه، فيصل الإحباط العدمي إلى إعلان أنّ ما حدث “لم يكن ثورة”، كما يتمتم بعض المنهكين بضيق، وإنّه قد “آن لكلّ هذا الجنون أن يتوقّف”، ثم لا يلبث أن يصل بعضهم إلى حدّ الدعوة إلى الاستسلام للنظام، عبر ابتداع تحليلات اقتصادويّة تسوّغ ذلك، كالقول، مثلاً، إنّ أفضل طريقة للانتصار على النظام بالاستسلام أمامه، لانّ ذلك سيقوم “بتظهير تناقضات اقتصاد الحرب”.
إن تعبيرات لا منطقية كهذه لا تقاوِم أدنى محاججة بتنا نسمعها من معارضين للنظام: نحن هنا في مملكة الخيانة الموضوعية، خيانة النضال الهائل للسوريين والسوريّات من أشخاصٍ يضحكون على أرواحهم، قبل أن يضحكوا على الآخرين، بينما شمس الحقيقة الساطعة هي التي تضحك عليهم. كلّ التبريرات المعطاة محاججات عقليّة، لكنها غير عقلانيّة، حتى لو أنّها تأتي من موقع المناوئ للنظام ولحلفائه. كلّها مواقف، موضوعيًا، تخون الثورة ونضالها، أو في تعبير البسطاء الفظّ، أننا لسنا هنا إزاء خونة، بل في حضرة أغبياء، وتحديدًا غباء يتحوّل إلى أداةٍ لتوليد الشرّ. والواقع أنّ الأمر ليس مجرّد ردّة فعل على الشرط الكوني الذي أدى إلى كارثيّة هذه الأوضاع، أي هذا تكالب العالم ضدّ السوريين، بل هو أيضًا، نتيجة وضع تضافرت فيه العوامل الذاتية، من عجزٍ تامٍ تبديه طرائق التفكير عند نخب وعوام سوريين عن فهم العالم كما هو. وإنّ هذا لفائق الأهميّة، لأنّه العامل الوحيد المفروض المحتمل الشغل عليه. إذا المشكلة هنا “سورية” بالمقدار نفسه تمامًا الذي تتجلّى به خصوصية الثورة السوريّة، أوّ قل إنّ أحد أكثر الطرق التي تَعيَّن بها الطابع “الوطني” السوري للثورة كان خصوصيّتها “السوريّة” جدًا في التفكير بالعالم، علماً أنّ أهّم مكوّنات هذا “الطابع الوطني” إنّما هي النرجسية السوريّة.
كان واضحاً، منذ البداية، أنّ نظرة النخب السوريّة المهيمنة إيديولوجيًّا على خطاب الثورة تكاد
“تيمة الفقدان التام للأمل باتت تشتدّ، لتصل إلى حدّ النكوص التام ضد كلّ ما تمّ تحقيقه” تصل إلى حدّ الصبيانية في فهمها السياسة الدولية والعالم، وهي تحرّكت بشكل ساحق من خلال ردّات فعل شرطية انعكاسية، على أمل أن تستجلب بذلك الرضى الدولي. سيطر هاجس إرضاء الدول الغربية، وغير الغربيّة، على المعارضين السوريين وأصدقائهم من اللبنانيين، فتأرجحوا بين روحٍ نفعيةٍ ساذجةٍ قصيرة المدى، جعلتهم دمىً في يد المصالح الدوليّة، وما يمكن تسميته تهذيبًا، غيريّة وتسامح سوريين شديدي التهوّر والسذاجة تجاه مآرب الغير فيهم. كانت نتيجة ما سبق أنّ المعارضين قاموا بتهديم (وتلغيم) كل خبرات العمل السياسي النضالي العالمي والعربي في التاريخ الحديث بشكل أعمى، وذلك باسم ليبرالويّة (ليبرالية زائفة وفارغة) عاجزة عن إعقال الواقع كما هو. هذه الليبرالويّة عنَت أنه بات لديك، مثلًا، وما زال، جماعاتٍ كاملة من النخب، تشتم كلّ ما يتعلّق بالعرب والعروبة، أملاً بإرضاء السرديات الاستعمارية الغربيّة والإيرانية السائدة عنّا، مما يرسّخ عند الجماهير السورية مركّبات نقص دونيّة، تلاقي سموم كلّ العنصريين المعادين للعرب في منتصف الطريق. ومما يعني أيضاً أنّ الإحساس بوحدة مصير العرب أمام الهجمة الاستعمارية التي يتعرّضون لها أصبح مفقودًا لدى كثيرين منهم، بينما هم سابحون في بحر النرجسية المتلاطم. وبالتالي، تمّ إعدام أيّ تفكير وعمل من أجل جهود وحدوية عربية ضدّ ما يحدث، فترى مثلا ناشطين سوريين يطلبون تعاطفًا دوليًّا ضد المجازر في حلب، ولا يقولون كلمة واحدة بشأن تدمير الموصل، وما يحصل فيها من مجازر باسم الحرب على “داعش”.
رمت النخب السوريّة كلّ العدّة الفكرية والنفسية التي كانت تمتلكها، ولم تنتج شيئا يذكر في المقابل. أسقطت تقريبًا كلّ شيء ذا قيمةٍ يذكر من عقولها خلال السنوات الماضية، قبل أن تفشل بإسقاط العالم الساقط الذي ما زال يقتلها. كان من شبه المحتّم عليها أن تفشل، ليس فقط لانّ الاحتمالات كانت أصلًا ضدّ الثورة، ومنذ أوّل لحظة فقط، وعلى نحو مريع، بل لأنّ صبيانيتها السياسيّة بالذات كانت أسوأ صنفٍ من الطيش واللامسوؤلية المُتَخيّل، لمواجهة أعدائنا الرهيبين. تم وهْب كلّ العدّة الفكرية التاريخيةّ العربية بأبخس الأثمان خلال السنوات الماضية، مثل رابط العروبة ودروس النضال ضدّ الاستعمار، والتعلّم من غزو العراق وتدميره، والتوجّه اليساري لمصلحة الجماهير، والحرص على الجيوش العربية، والروح الليبراليّة في إنشاء حوار ديموقراطي إلخ…وتم ذلك كله في مقابل ليبرالويّة سوريّة بلا قيمة تذكر، سوى أنّها سهّلت اختباء النظام وحلفائه خلف شعاراتٍ أحالت ظاهرًا إلى كلّ ما ذكرناه، لكن مع أفعالٍ مضادة تمامًا لها. والآن، في لحظة الوحدة العظيمة التي يعيشها المواطن العربي السوري المهجّر، بينما تقصف جميع طائرات دول العالم مدنه وقراه، بات لا يملك أي قدرةٍ نفسيةٍ أو فكريّةٍ، تتأتى من إرث حديث، ولو غير كافٍ، من أجل مواجهة المتغيّرات البديهية التي يجب أن
“رمت النخب السوريّة كلّ العدّة الفكرية والنفسية التي كانت تمتلكها، ولم تنتج شيئا يذكر في المقابل” يحسبها أيّ ثوري، والمسماة “مصالح” أو “مآرب الآخرين”: الأحزاب الكرديّة التي تريد دولتها الافتراضيّة، ولو عنى ذلك تفتيت الدول العربيّة، الإسرائيليون الذين يريدون “أمنهم الأبدي” بثمن قدره تدمير الجيوش العربيّة، الإيرانيون الذين يريدون إمبراطورتيهم القوميّة-المذهبية، وتدمير الحضارة العربية ومراكزها المدينيّة، الأميركيون الذين يقولون إنهم يريدون “محاربة الإرهاب” وكلّ ما يفعلونه، في الحقيقة، هو تقوية الإيرانيين وعملائهم، الأتراك يريدون أمن حدودهم الشرقيّة، ولتحترق مدينة حلب في الجحيم الروسي، وبعض اللبنانيين يريد أن يصدّر مليشياته لتدّمر العرب، وأن “ينأوا بنفسهم” عن ذلك، بينما النظام الفاشي السوري يقتل شعبه ويهجّره، وهناك دول أوروبية لا تريد من ذلك كله سوى يد عاملة رخيصة.
في خضمّ هذا المسلخ الرهيب، يقف السوري مغلّفًا بسوداويّته، ليعتقد أنّ الأمر كلّه كان مكتوبًا عليه منذ البداية. كلا هذا غير صحيح. لقد تمّ أخذ خياراتٍ أدّت لهذا كله، وهناك أثمان للأمر وتبعات. والخيار الوحيد المتبقي الآن هو وقف سيمفونيات النرجسيّة السوريّة التي تضرّ ولا تفيد، من أجل استجماع كل القوى العربية والعالمية، بدءا من العراق والخليج العربي، وصولًا حتى تونس، وتأسيس مقاومة من نوع أرقى ضد أشرس هجوم تتعرّض له أرض العرب في تاريخها كلّه.
العربي الجديد