في الأسبوع الماضي، وقّع بعض المسؤولين بوزارة الخارجية الأمريكية “مذكرة معارضة“، انتقدوا فيها استراتيجية الرئيس باراك أوباما في سوريا ووصفوها بأنها ليست استراتيجية، ولكن يبدو الوضع في موسكو مختلفًا تمامًا. المشاحنات الدبلوماسية الأخيرة المنخفضة الحدّة بين الدولتين بشأن مَن نفذ صبره في سوريا تشير إلى اضطرابات أكثر عمقًا في كل العواصم حيال الاستراتيجيات الخاصة بكل دولة في سوريا.
قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إنَّ “الصبر له حدود، وفي الواقع، الصبر محدود للغاية فيما يتعلق بمساءلة الرئيس السوري بشار الأسد.” أثار هذا التصريح رد فعل قوي من الروس. وبعدها مباشرة، نصح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كيري “بالتحلي بالصبر”، وخاصة بعد أن صرّح أوباما مرارًا وتكرارًا أنَّ إدارته “تنفذ سياسة الصبر الاستراتيجي“. لكنَّ المسؤولين العسكريين الروس – كما هو متوقع – كانوا أشد قسوة. وقال فاليري غيراسيموف، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الروسي: “إذا كان هناك طرف نفذ صبره في سوريا، ليس نحن بالتأكيد، بل الولايات المتحدة”.
وأضاف غيراسيموف: “نحن نمتثل لالتزاماتنا من أجل الحفاظ على وقف إطلاق النار وضمان المصالحة الوطنية في سوريا. لمدة ثلاثة أشهر كنا نرسل بيانات نظام تحديد المواقع عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة للأمريكيين، وشركاؤنا في الولايات المتحدة لم يحسموا أمرهم بشأن مواقع قوى المعارضة و” المنشقين” عن المنظمات الإرهابية الدولية.”
في الواقع، تعكس هذه التصريحات خيبة أمل كبيرة في موسكو. تركّز وسائل الاعلام الروسية والمعلقون حتى الآن على معركة الرقة، ولكن النقَّاد وصنَّاع القرار يشعرون بالقلق من أنَّ الأحداث في سوريا لا تسير في المسار الذي رسمته موسكو في البداية. ينظر معظم الأطراف إلى تنظيم داعش باعتباره العدو الذي لا يمكن المساومة معه تحت أي ظرف. ولكن بقدر ما يتعلق الأمر بالوجود الأمريكي في المنطقة، يقارن بعض الصحفيين الروس ذلك بمعركة “الاستيلاء على برلين“، مما يعني أنَّ روسيا والولايات المتحدة في محاولة يائسة لضمان استيلاء قواتهم على المدينة أولًا.
منذ البداية، شكّ الخبراء العسكريين الروس في أنَّ الرقة كانت الهدف الحقيقي للأسد، الذي كرّس المزيد من الجهد نحو الاستيلاء على مدينة الطبقة لكسب موطئ قدم له من أجل شنّ المزيد من الهجمات. ومن الواضح أن الخطة لم تعمل بشكل جيد حتى الآن؛ فقد استعاد تنظيم داعش أجزاء كبيرة من الأراضي من القوات السورية في الرقة ومناطق أخرى، فيما حافظت قوات المعارضة على سيطرتها أيضًا. كل هذا يجعل مستقبل الأسد وجيشه أكثر غموضًا. وعدم اليقين في موسكو يزداد بشأن ما تراه باعتباره سعي واشنطن لتبني سياسة أكثر مرونة.
عندما ذكر موقع “BasNews ” أنَّ الولايات المتحدة قد توسطت لعقد اجتماع في أواخر شهر مايو الماضي بين السلطات التركية وممثلي حزب العمّال الكردستاني في قاعدة إنجرليك الجوية التركية، وصف الصحفيون الروس نتائج الاجتماع بأنها ناجحة. وقيل إنَّ الاجتماع أسفر عن حلًا وسطًا يقضي بسماح الحكومة التركية لقوات سوريا الديمقراطية بالسيطرة على المناطق الشمالية من سوريا إلى الغرب من نهر الفرات، في مقابل تراجع مقاتلي حزب العمّال الكردستاني من البلدات الكردية في جنوب شرق تركيا.
قد يكون هذا الاتفاق مكسبًا تكتيكيًا لجبهة النصرة، لأنّ الجبهة يمكن أن تركز الآن بشكل أكبر على محاربة قوات الأسد.
وبالمثل، ترى موسكو أنَّ الهجوم الكردي في مدينة منبج، بدعم من القوات الخاصة لحلف شمال الأطلسي على أنها محاولة من قِبل قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة للسيطرة على مدينة جرابلس، وهي طريق عبور رئيسي يحصل من خلاله المقاتلون على المساعدات من الأراضي التركية. وهذا بدوره سوف يساعد الأمريكيين، من وجهة نظر الخبراء العسكريين الروس، للاستيلاء على بلدة عزاز، وبالتالي إحكام السيطرة على عفرين بمساعدة من الجيش السوري الحر وجماعات المعارضة الأخرى. وجود هذه الأراضي تحت سيطرة القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة ليس شيئًا تود أن تراه موسكو. ومن خلال هذه المعادلة، فإنَّ السيطرة على حلب وإدلب ستكون عاملًا كبيرًا في تعزيز دمشق محليًا ودوليًا على طاولة المفاوضات. لذلك، قلق موسكو الأكبر هو ما إذا كانت واشنطن ستدعم أنقرة في نقل موارد إضافية إلى هذه المناطق؛ ففي حال حدوث ذلك، تخشى روسيا من خسارة نظام الأسد بعض الأراضي.
ونتيجة لذلك، فإنَّ الكرملين في محاولة يائسة لوضع خطة مضادة. زيارة وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو إلى إيران وسوريا يمكن اعتبارها جزءًا من هذا الجهد. قد تستخدم روسيا نهجًا أكثر تقليدية لتجنيد حلفاء الولايات المتحدة السابقين من جماعات المعارضة المتمردة. كل هذه التحركات تبدو مفهومة؛ فموسكو تريد تنسيق الجهود مع حلفائها التكتيكيين لجعل سياساتها أكثر فعّالية، وفي الوقت نفسه تأمين نفوذها داخل جماعات المعارضة في حال أصبحت جزءًا من العملية الانتقالية في سوريا. هناك قلق منطقي في موسكو أنَّ هذا قد لا يكون كافيًا؛ وذلك نظرًا لأنَّ قادة الأسد ارتكبوا بعض الأخطاء الخطيرة في ساحة المعركة في حين أنَّ قوى المعارضة يتمددون خارج القوات الحكومية ويضربون المناطق “الخالية من الجيش”.
وفق كل ما سبق، كانت هناك بعض الانتقادات لموقف موسكو تجاه وقف إطلاق النار. “كان يجب على روسيا أن توافق على وقف إطلاق النار لأنّها إذا لم تفعل ستنحدر في مستنقع خطير. وقال خبير عسكري له سجل طويل من الخدمة في الجيش الروسي لموقع المونيتور: ” ولكن الطريقة التي يدار بها وقف إطلاق النار تمنح القوى المناهضة للأسد الوقت لإعادة تجميع نفسها لتصبح أكثر قوة”. وفي غضون ذلك، قُتل جندي روسي في محافظة حمص الأسبوع الماضي بينما كان يحاول إيقاف سيارة مفخخة تسير بأقصى سرعة باتجاه نقطة تسليم المساعدات الإنسانية. وارتفع العدد الرسمي للقتلى من الجنود الروس إلى 11 قتيلًا.
وفي الوقت نفسه، حوادث مثل اشتباك الطائرات الروسية والأمريكية في سماء سوريا أصبحت أكثر تواترًا؛ حيث تواصل الطائرات الروسية ضرب ما يراه الأمريكان قوى المعارضة وبنيتها التحتية، ويحاول الطيارون الأمريكان وقف تلك المناورات من خلال ما تمّ وصفها بأنها “مواجهات جوية.” وعلى الجانب الإيجابي، مازالت آليات الاتصال موجودة وفعّالة. ومع ذلك، هذه الاشتباكات ليست سوى إشارة مثيرة للقلق عن مدى قرب القوتين من كارثة محتملة، ومدى التزام ورغبة كلا الطرفين في محاولة توجيه الأوضاع بطريقتهم الخاصة.
لاحظ نيكولاي كزانوف، وهو زميل غير مقيم في مركز كارنيغي في موسكو أنَّ “لا يوجد طرف في سوريا على استعداد لوقف القتال في ظل الحالة الراهنة، رُغم إنَّ كل المؤشرات الإيجابية في جانبهم هذه المرة”.
مخاوف موسكو بشأن النجاحات التي حققتها الاستراتيجية الأمريكية تتعارض مع الانتقادات التي تواجهها الاستراتيجية في واشنطن. لكن المخاوف والتناقضات في عواصم أخرى مماثلة تعكس أن الأطراف المعنية تشعر بأنَّ سياساتهم غير مجدية. وإذا كان هذا هو الحال، فقد وصلت الأزمة في سوريا إلى منعطف جديد حيث جميع الأطراف – الداخلية والخارجية على حد سواء – سوف تسعى لإعادة رسم استراتيجياتها في الأسابيع المقبلة.
إيوان 24