حياة آمنة يتوقع أن يحياها السوريون في مناطق محافظة ادلب الواقعة ضمن الهدنة، التي أُبرمت قبل أشهر بين فصائل المعارضة والوفد الإيراني الذي سعى جاهداً لإنقاذ آلاف الأرواح في بلدتي الفوعة و كفريا آخر معاقل للنظام في المحافظة.
حياة بدأت الحياة تعود لمدينة هُجّر سكانها بعد تحولها لمنطقة لإفراغ الطيران من صواريخه وبراميله المتفجرة، فترى فيها الأسواق المزدحمة، والمحلات التي مُلئت بمختلف البضائع، وباعةٌ جوالون ينادون على بضائعهم لبيعها، يتخلل أصواتهم صوت مولدة المنطقة والتي تم وضعها لخدمة السكان. مؤسسات تُفتح، ودوائر خدمية وأفران تعود للعمل بعد عناء طويل، فمدينة ادلب لم تخضع للإئتلاف الوطني وإنما لجهود فردية من الإدارة المدنية.
لقد كان الفرن الآلي أحد أهداف الطيران الحربي، لكن الإرادة لم تنكسر وتم إعادته للعمل بعد تعرضه للقصف، تخلل أيام الهدنة التي نعيشها اليوم في المدينة حالات خرق بقصف المدينة وإيقاع شهداء وجرحى، حيث أدت الغارة الأخيرة إلى ارتقاء 8 شهداء بينهم طفلان وامرأة.
“أنا محلي بمقعد المدرسة .. مو بمحل تصليح ميتورات” كلمات لطالما كان يرددها الطفل “قصي جلقة” ذو العشر سنوات، قصي الذي كان يحلم دوماً بأن يصبح طبيباً يساعد المرضى وجرحى الحرب، لقد دفعه إلى ذلك الحلم المشاهد اليومية للجرحى واستغاثاتهم، لكن الحلم انتهى بإيقاظ أمه له للذهاب إلى عمله لمساعدتهم في المعيشة بعد ضيق الحال.
بجسد نحيل لا يقوى على شيء وقامة قصيرة يرتدي ثيابه الممزقة والممتلئة بالأوساخ وينطلق لمساعدة صاحب العمل في تصليح الدراجات النارية في محله قرب الفرن الآلي.
عند سماع صوت الطيران الروسي ينظر للسماء محاولاً رؤيتها، وقلبه الصغير مطمئنٌ على أنها لن تقصفهم فالهدنة ما زالت قائمة، يعود لمتابعة عمله والأمل يعود إليه بعد تحسن ظروف البلد ووقف القصف وشلال الدم، وفجأة صفير صاروخ! لم يستطع قصي أن يختبئ فكان النهاية أن لقي حتفه.
غبار قد ملأ المكان، وحجارة تتساقط من شرفات المنازل المدمرة، ليطغى بعدها صوت سيارات الإسعاف على المكان محاولاً إنقاذ من بقي على قيد الحياة، وأثناء انتشال الجثث تبحث أم قصي عن فلذة كبدها لكنها لم تجده، تسأل كل من تجده بطريقها، ولكن لا إجابة، وخلال لحظات الصمت التي تعيشها الأم، تسمع أصوات تكبير بعد إخراج إحدى الجثث من بين الأنقاض، لقد كانت جثة ابنها، وقد أُخرجت من تحت باب المحل ليمزق أعضاءه ويدمي جسده.
في 20 من الشهر الحالي زفت مدينة ادلب عدداً من الشهداء والجرحى معظمهم بحاجة لبتر أحد أطرافهم نتيجة إصابتهم اصابةً شديدة، ويضاف قصي كـ رقم إلى أكثر من 19 ألف طفلاً قتلوا خلال الثورة السورية بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
عانى المشفى الميداني وقتها من نقص في أكياس الدم، حيث فُتحت أبواب التبرع بالدم للجميع، وفي إحدى الغرف تُوضع جثة الطفل وتجلس أمه قرب رأسه، لم تعلم ماذا تقول أو تفعل والدموع تجري على جبين ابنها، تقبله و يمر شريط ذكرياتها عنه، كيف تلبسه ثياب العمل وتطعمه وتدعو له بالحماية وتقول” يا بني عد إلينا سالماً، وتبقى نار الخوف تتضرم في قلبها حتى عودته في نهاية اليوم متعباً وجائعاَ.
في النهاية، لم يعد الكلام ولا البكاء يجدي نفعاً أمام تلك المجازر التي تحدث في كل يوم، ويبقى للسورين الأمل الوحيد وهو طلب العون من الله بعد تخاذل الكثيرين ووقوفهم موقف الحياد من تلك الأحداث، وبعد القصف وأثناء نقل الجرحى يرفعون إصبعه واحدة تدل على استمرارهم في الصمود
سائر الإدلبي.
المركز الصحفي السوري