بأيدٍ عارية، وفؤوسٍ ينبشون الركام الهائل. أي أمل؟ أي حافز؟ بل أي قوةٍ تدفعهم إلى تقليب حطام عمائر يستحيل على البلدوزرات تقليبه، بحثاً عن صوتٍ، أو نأمة تحت الردم؟ لا أعرف. مع أنني أعرف، فقد رأيت، ذات يوم، طائراتٍ تفعل شيئاً كهذا في بناياتٍ شاهقةٍ فتسوّيها بالأرض، ورأيت أيدٍ تنقضُّ على الركام، وتخرج من تحته أشلاءً وأنفاساً. ولكن تلك كانت طائرات الأعداء. ماذا نسمي هذه الطائرات؟ لا أعرف. الكلام سهل. وهذا أمر صعب. كيف سيفهمني الآخر، عندما أقول إن هذا العدو أخي؟ ربما سيفهم. سيفكِّر في هابيل. في مملكة آدم التي جعلت الجريمة فعلاً أخوياً. الصور التي تتواصل على الشاشات تزيد الطين بلة. تُميت فينا تدريجاً المشاعر. تبلّد الحواس وتلبّدها. ماذا يعني هذا الفيض من الصور الذي يتوالى على أنظارنا؟ إنه مجرد شيء يحدث. هناك. في مكانٍ، حتى لو كان أليفاً لنا، بيد أنه خارج حواسّنا، فالهدير والركام والدم والأشلاء والرعب والصرخات لا تخرج من الشاشة وتتمشى بيننا. هذا لا يحدث. وما دام الأمر كذلك فهو غير قادرٍ على جعلنا نعرف كم هي مقدَّسة هذه الأيدي التي لا تتراجع أمام الركام. هذه أيد مقدّسة. ولا كلام عندي غير هذا. فمن يرفع الحياة من تحت ركام الموت لا بدَّ أنه يأتي من جهة المقدَّس. من يحفل بالحياة، ويحدب عليها، وهي تُباد، كذلك أيضاً. هذا هو مقدّسنا الإنساني، ونحن لا نعرف غيره. نعرف الشياطين. الآلات البشرية المجوَّفة التي تتحرك بالريموت كونترول من كهوف الحداثة. نعرف مصّاصي الدماء، والزومبيين، فهذا عيدهم. هذا نبيذهم. لا حاجة لنبيذٍ آخر، كما فعل ابن مريم كنايةً عن الدم. ولا عن كسرة الخبز كنايةً عن اللحم. هنا الدم واللحم طازجان، وعضويان إلى أبعد حد. يأتي الهدير الذي يشلع القلوب. يدوّي الموت ويصفر. تتحوّل الأحياء إلى أثلامٍ من الكونكريت حرثتها، بدقةٍ عالية، الطائرات التي عادت إلى قواعدها سالمة.
تغيب تكنولوجيا الإنقاذ ورفع الردم. تصبح في عداد الأعداء. وتبقى اليد العارية. اليد التي حفرت أول قبرٍ في تاريخ مملكة آدم هي نفسها التي ترفع الركام الذي يستحيل رفعه، بحثاً عن نفسٍ لا يزال يتردَّد في صدر طفلٍ أو امرأة. هذه الأيدي هي الدليل الوحيد على أن العالم لم ينته على ما يبدو، وأن هذا ليس يوم القيامة، وأن هناك من لا يزال يحفل بالألم. هذا ليس يوم القيامة. على الرغم من أنه كذلك لأهل حلب التي تدكُّ بحقدٍ لا تتخيل تل أبيب أن يكون في صدور أعدائها. ففي يوم القيامة، يذهل المرء عن أبيه وصاحبته وبنيه. وهذه الأيدي التي تمتد إلى الركام، كما لو أنها تصلّي، لم يأخذها الذهول، ولم يربطها هول الدمار المصمَّم خصيصاً لطرد من تبقى في المدينة إلى خيم اللجوء على أرصفة العالم. يا لهذا الإجرام المندفع بحماسة من يحجّ، أو يطهِّر مكاناً من وباء. حدَّد لهم “الطبيب”، خبير الفيروسات، أمكنة الأوبئة وهم لا يفعلون سوى تطهيرها. نفكِّر هنا بالاستحالة التي بلغتها الأمور هناك، بينما تؤكّد تلك الأيدي التي تنبش الركام وجود الممكن. وها هي كل مرة تُخْرج كائناً، في عداد الأموات، من تحت الردم الضخم. كم طفلاً علينا أن نراه يُنتشل من بين الركام، لنفعل شيئاً أكثر، قليلاً، من الأسف؟ كم طفلاً على سورية أن تقدمه كأيقونة، كقربان، حتى يتحرّك العالم لفعل شيء أكثر، قليلاً، من التنديد؟
قبل يومين رأيتهم، هؤلاء الذين لا يحملون بندقيةً، ولا يرتدون ثياب ميدان، وهم يرفعون بأيديهم المباركة ركاماً يتعالى منه الغبار، ويصلون إلى الصرخة التي تُسمع تحت شقف الحطام الهائلة. كان طفلاً رضيعاً. ينتشلونه. ينفضون عنه الغبار الأبيض. ويصرخ الجمع الصغير الذي يسهم في رفع الانقاض بأيدٍ عارية أمام هذه المعجزة: خروج الحيِّ من الميت. لم تعد المعجزة أن تتوقف الحرب، ويعود الذين هُجِّروا، غصباً، إلى بيوتهم، بل أن تنتشل روحاً صغيرة من تحت ركام البنايات المفرَّغة من الهواء والحياة العادية التي كانت تتدفَّق أنفاسها وروائحها من شرفةٍ إلى أخرى.
العربي الجديد