لا شيء أقوى من الموت في سوريا. هذه هي الفكرة التي يخرج بها أي متابع للشأن السوري، فـ “القتلى في كل مكان” والموت يأتي من أي مكان مذكرا بعبارة معين بسيسو بقصيدته سفر “يأتي إليك الرصاص من كل الجهات الأربع”.
في ظل هذا المشهد السوريالي، يكتب الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة روايته الجديدة “الموت عمل شاق” بعد “مديح الكراهية” و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، و”حارس الخديعة”، و”دفاتر القرباط”، ليروي ورطة “الجسد الفائض” أو الجسد الخارج عن الخدمة ومواجهة المثل الجبان “الحي أبقى من الميت”.
تنطلق الرواية من وصية تبدو بسيطة جدا، طلب الأب المحتضر عبد اللطيف السالم من ابنه بلبل أن يدفنه بقريته العنابية بجانب أخته ليلى. لا شيء مثيرا ولا غريبا بهذا الطلب الذي يبدو تهيؤات المحتضرين جميعا عبر التاريخ، تهيؤات “الأجساد المهزومة” كما يسميها “لوبروتون” بمؤلفه “أنثروبولوجيا الجسد والحداثة”. فالكل يريد أن يدفن في قريته وبجانب عائلته، وكأنما يخشى الواحد منهم المقبرة، ويعتقد أنه سيكون في طمأنينة بين أهله.
“بلبل في لحظة شجاعة نادرة، وتحت تأثير كلمات الفراق الأخيرة وعيني أبيه الغائمتين الحزينتين، تصرف بثبات ودون خوف، ووعد أباه بتنفيذ وصيته التي كانت برغم وضوحها وبساطتها مهمة شاقة”.
مأزق الوصية
ولكن المأزق يبدأ من لحظة الرحيل وبداية تنفيذ الوصية، فالوصية البسيطة لم تعد كذلك لأن الحركة محفوفة بالموت، كما المشي على أرض مزروعة ألغاما، والجغرافيا السورية التي لم تعد موحدة، والعبور من مكان إلى آخر مهما كان قربه مغامرة مهلكة.
و”القتلى في كل مكان، يدفنون في مقابر جماعية ودون تدقيق في هوياتهم. مراسم العزاء حتى بالنسبة للعائلات الغنية اختصرت إلى ساعات قليلة” هكذا تحول الموت في سوريا إلى أكثر الأشياء توزيعا بالعدل بين الناس، فالكل يقتل والكل يحتفل بموته بالطقوس نفسها، فقد تغيرت طقوس تلقي خبر الموت، بعد أن صار الموت خبزا يوميا لا دهشة فيه.
ينطلق البرنامج السردي لخليفة من فكرة تحول الجسد الحميم، جثة الأب، إلى “عبء ثقيل” في زمن الحرب، وتتحول الوصايا البسيطة إلى أشغال شاقة تختبر فيها النفس البشرية آخر نبضها. ويبدو الابن بلبل كما لو كان آخر كائن يشدو بالحياة في زمن الموت، لذلك كان عليه أن ينفذ الوصية، فعدم تنفيذها يسقط الجميع في الموت الرمزي، فأن ندفن الجثة هو إعلان للحياة وتدليل عليها منذ قابيل وهابيل.
جثتان وروايتان
تبدو جثة عبد اللطيف السالم في رواية خليفة حزينة وسيئة الحظ، فكل من حولها يريد التخلص منها. وخلافا لكينكاس الذي تصرخ جثته في وجه البحر “سأدفن كما أشتهي، في الساعة التي أشتهي، يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن لميتة جديدة، وميت جديد، أما أنا فلن أترك أحدا يحبسني في قبر أرضي ذليل”.
كانت عيون السالم تستجدي أبناءه أن يدفنوه في قريته قريبا من أخته، بينما كان كينكاس يفتح فمه مبتسما لأصدقائه “الأوغاد” الذين يركضون به في الشوارع والمنحدرات والأسواق.
هذه المقاربة المقارنة بين الجثة العربية والبرازيلية تعكس نظرتين مختلفتين للعالم، وتشي بالنكسة الثالثة للشخصية العربية مع ما يسمى الربيع العربي الذي تورط فيه العربي الأخير بحثا عن الحرية وتقرير المصير، ليجد نفسه غير قادر حتى على أن يدفن نفسه في أرضه بالحرية.
يقدم خليفة رواية سوريا اليوم بكل تعقدها من خلال محنة الإنسان على أرض مزقتها الصراعات، فمزقت حتى الحميمي وباعدت بين الأموات قبل الأحياء ليطال الشتات الأمنيات الأخيرة، غير أن إصرار بلبل بالرواية على بلوغ هدفه السامي، وهو تنفيذ وصية الراحل ودفنه بقريته، يفتح آفاقا جديدة للحلم السوري بإمكانية دفن الأحزان وعودة البلابل لأشجار سوريا لتشدو بالحرية.