القدس العربي – راشد عيسى
يبدو أن كل ما يقع في يد الممثل السوري (لنقل معظم الممثلين السوريين خشية تعميم ظالم) سيؤول إلى الخراب. لم تقتصر حملة “كرمال سوريا خليك بالبيت” (وفيها يطلّ النجوم على مواطني بلدهم لحثهم على البقاء في بيوتهم) على الممثلين وحدههم، فقد كان هناك تشكيليون ورياضيون وموسيقيون وإعلاميون، ولقد مرّت فيديوهاتهم من دون إزعاج يذكر، إلا الممثل، فقد أصرّ على أن يتشاطر ويقدم نفسه مستعرضاً موهبته و”هضامته” قبل أن يصل إلى “مقولته”، تلك الجوهرة، التي ذهبت الكاميرا إليه لالتقاطها.
هكذا راح مصطفى الخاني، في الدقائق القليلة المخصصة له، يتشقلب، ويتمرغ فوق بلاط بيته، لنتعرّف أي معاناة يعيش. وكذلك فعل فادي صبيح وهو يعيد ترتيب السرير الفسيح في غرفة نومه، وذلك قبل أن نصل إلى طاولة طعام طارق مرعشلي وسكّينه، التي راحت تهتز في وجوهنا على وقع التهديد: خليك بالبيت. أما نانسي خوري فقد أصرت أن تتحفنا بمشهد مسرحي لا تربطه أي رابطة بمسألة الحثّ على البقاء في المنازل.
وإذا كان هنالك، رغم تفريدات الممثلين، لوازم ثابتة مكررة، فإن اثنين من بين الوعّاظ حاولا التغريد خارج سرب المكتوب، الممثلة تولين بكري والموسيقيّ طاهر مامللي، المشهور بألحانه المؤلفة للمسلسلات الدرامية التليفزيونية وبفرحته وشماتته بقصف النظام للأحياء الثائرة شرقيّ دمشق، قبل تهجيرها. فإذا كان الجميع أكدوا على أن “صحتنا هي مسؤوليتنا جميعاً، فقد قال مامللي، وأصابعه على أهبة متابعة الكتابة على لوحة مفاتيح كمبيوتره الشخصي: “كموسيقي، مسؤوليتي أعمل موسيقى حلوة تعجبكن وعلى ذوقكن، أنت مسؤوليتك صحتنا كلنا”. وقد قالت بكري العبارة نفسها، وإن بدت من دون صلف عبارة مامللي.
هذه المرة، يتخيل المرء أن من الأفضل لو أطلّ هؤلاء من مكان أقل ترفاً. فحتى لو لم يقصدوا استعراض زواياهم الأثيرة في المنزل، فإن من الصعب ألا يلتفت المتفرج إلى عناصر المكان. بأي عين سيشاهد ولد العشوائيات، والمخيمات، والأحياء المزدحمة، حيث يضم البيت الواحد عدداً من العائلات وعشرات الأطفال، تلك الغرف الفسيحة، والصالونات الأنيقة، والمطابخ، وخصوصاً خلاط الكوكتيل اللامع والأنيق فيها، والتي سيطلّ من قلبها من يقول لك، أحياناً بنبرة مهددة، “ابق في بيتك”، و”صحتنا مسؤوليتك”، كيف سيكون جوابه عندما يشاهد ويسمع، ثم يتلفت حوله!
لا نتحدث هنا عن سكان الخيام والطين شمالاً، خارج سيطرة النظام، فلا نحسب أن لدى هؤلاء ترف المشاهدة من الأساس. إننا نتحدث عن سوريا “المتجانسة”، تلك البقعة، حيث الأغلبية لفقراء لن يدركوا قوت يومهم ما لم يخرجوا من بيوتهم طلباً للرزق، فيما قلوبهم تتمنى حقاً لو أنهم استطاعوا تلبية دعوتكم للبقاء في البيت.
غسان مسعود
كعادته، أراد المخرج والممثل السوري “العالمي” غسان مسعود أن يتفرّد في تلك المساحة الصغيرة الممنوحة له ليطلّ منها على الجمهور السوري ناصحاً إياه بالبقاء في البيت. أراد لإطلالته أولاً أن تكون على البطيء، وتكفّل هو نفسه (لا الماكينات) بالأمر؛ راح يكثر من السكتات بين الكلمات، ويمطّ الحركة والنظرة والتنهيدة إلى أقصى مدى ممكن. لبس ثوب العارف، الذي سرعان ما سيعود إلى الكتاب حين يفرغ من النصيحة. إلى جانب ذلك الأداء، أراد مسعود أن يقدم نصاً متفرداً أيضاً: “خلينا بالبيت (يقطعها بتنهيدة)، مشان الله يخلينا”، ولا تخفى بالطبع محاولة اللعب “المبدع” بالكلمات، بين “خلينا” و”الله يخلينا”. أما إن شاء غسان أن يتهاضم فلن يحاول إظهار قصديته بالتنكيت، فربما لا يليق ذلك بحكيم مثله، بخبير في مثل تجربته، يقول نكتته وهو في منتهى التجهم والجدية: “بلكي بينقبر (الفيروس)، بيحلّ عنا”.
هلكتنا يا غسان، في فيديو من المفروض أنه لا يطمح إلا لقول كلمتين: “خليك بالبيت”. لو كنتُ هناك، لتركت لك البيت بحاله، بسبب هذه الفيديو بالذات، فمن يطيق كل هذا الثقل!
حملة رفع العقوبات
حملة أخرى للممثلين السوريين مستوحاة من وباء “كوفيد 19″، ولكنها، مع ذلك، تكاد لا تأتي على ذكر الوباء، فالهدف الوحيد الملحّ هو “رفع العقوبات الإجرامية الجائرة أحادية الجانب (هكذا حرفياً)”. بل إن بعض الفنانين يقول إن العقوبات والحصار الاقتصادي أقسى وأمرّ على السوريين من فيروس كورونا.
فيديوهات يتحدث فيها الممثلون محمد قنوع، وريم عبدالعزيز، وتولاي هارون، وسحر فوزي، ووضاح حلوم، وغادة بشور، ووفاء موصللي.. مشكلتها أنها عصية على التصديق، أولاً لأن الممثلين يمثّلون في وقت لا يلزم التمثيل، عندما يجب التحلّي بالعفوية وقول ما يشعرون به بالفعل، من دون نص مكتوب سلفاً، من دون أوامر. ثانياً لأن الكلام المكرر يؤكد أنه كلام موجه، صادر عن أعلى المستويات في البلاد. وبالتالي فلا حيلة ولا خيار أمام الممثلين سوى الانصياع. ثالثاً لأنك لم تسمع من هؤلاء طوال سني الثورة والحرب في سوريا أي تعاطف مع الضحايا، معتقلين كانوا أم مهجررين أم مذبوحين.
شعور طاغ يدهم المرء عند مشاهدة ممثلي تلك الحملة، تشعر كأنك أمام مسلسل “باب الحارة”، هذا سبب آخر أقوى لعدم التصديق.