تتلاقى حالياً معضلتان في الشرق الأوسط، ستكتبان مصير المنطقة سنوات وعقوداً قادمة. لسورية معضلتها الخاصة، والتي رافقتها منذ تأسيسها في مطلع القرن الماضي. ولإيران أيضاً، الدولة العريقة، معضلتها الأعمق والأكبر. سورية الشقيقة لثلاثة كيانات شامية، أصغر منها بكثير من حيث المساحة، والمجاورة للعراق وتركيا، والمطلة على البحر الأبيض المتوسط، لها ميزتان، ديمغرافية وجغرافية، على جيرانها في الشرق الأوسط، تحددان معاً معالم معضلتها. ميزة سورية الديمغرافية، تتمثل في انضواء حوالى 70% من سكانها في خانة قومية دينية واحدة (عرب مسلمون، من أتباع السنة والجماعة). هذه النسبة لا تتحقق للدول في الهلال الخصيب، أو حتى في تركيا وإيران. أما الميزة الجغرافية فتتمثل في مجاورة سورية جميع الدول في المنطقة، وإطلالتها، بالتالي، على كل القضايا الإقليمية المعقدة.
أثرت ميزتا الكيان السوري على سورية والمنطقة، إبّان عهد الانتداب الغربي، كما برز تأثيرهما بعد الجلاء عام 1946. وخلال مرحلة الحكم الوطني، انقسمت نخب الأغلبية (في دمشق وحلب) ما بين القوى الإقليمية المتصارعة على سورية. أحدث الصراع المصري العراقي السعودي على سورية حالة من عدم الاستقرار في المنطقة. وهدأت حدة الاستقطاب الإقليمي، بعد اتحاد سورية مع مصر. وجاءت الأحداث بعد 8 مارس/آذار 1963، لتحطم سلطة نخب دمشق وحلب، لصالح بروز الأرياف. دخل ممثلو الأرياف في صراع سبع سنوات، انتهى عام 1970 بوصول حافظ الأسد إلى السلطة. وثبت أن حكم الرجل وضع حلاً للمعضلة السورية، فحكم أغلبيتها يتسبب في مضاعفات إقليمية خطيرة، فإما أن ينقسموا فيما بينهم، مشكلين إغراءً لدول الجوار، لكي تتدخل في شؤون بلدهم، أو أن يتحدوا، وبالتالي، يهددوا الموازين الطائفية والإقليمية شديدة الحساسية. فسورية تحت حكم حافظ الأسد كانت قوة استقرار، بطريقةٍ تتفق مع الإرادة الدولية، ومنعت الصراع الإقليمي من الاحتدام.
“اليوم تمتزج معضلتا سورية وإيران على الأرض السورية، فإيران تدخل بقواتها لمنع الأغلبية من الحكم، في إجراء من شأنه أن يعمق معضلتها في المنطقة“
وضع الرجل سياسة داخلية وإقليمية، حازت تفهماً غربياً ودولياً، فبينما قوّى الكيان السوري ووسع حدود تأثيره الإقليمي، أنفق جلّ موارد سورية من أجل التحكم بالأغلبية. أدارت الأجهزة الأمنية التي أقامها حافظ الأسد جهوداً متسقة، هدفت، في المقام الأول، إلى مراقبة السكان وضبطهم. ولو أن حافظ الأسد سخر هذه الموارد، من أجل عملية التنمية الداخلية، أو سعياً وراء مزيد من النفوذ الإقليمي، لكانت سورية أكثر قوة وفعالية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولكانت منافساً إقليمياً أشد بأساً من الذي كانته بالفعل. وبوضوح، استندت سورية، خلال العقود الأربعة قبل الثورة، إلى مليوني نسمة من شعبها فقط، والمؤكد أن المعادلة ستختلف، لو أن دمشق حكمت من قبل من يستند/تستند إلى 16 مليون سوري.
وفجرت الثورة المعادلة التي أرساها حافظ الأسد لحكم سورية. حرّكت الثورة صراعاً في سورية، وعليها بين القوى الإقليمية والدولية، وأعادت الهواجس الداخلية والإقليمية والدولية من حكم الأغلبية، كما أن الانقسامات داخل هذه الأغلبية عادت إلى الظهور. وزاد من تعقيد المعضلة السورية انخراط الأقليات في سورية في لعبة المحاور الإقليمية الخطيرة.
وبينما يحار العالم في وضع ترتيب جديد للمعضلة السورية، تلقي المعضلة الإيرانية، على بعد ألفي كيلومتر، بظلالها على النظامين الإقليمي والدولي.
جغرافياً، تتوسط إيران مجموعة من الدول ذات المواقع المختلفة، على سلم القوة الإقليمية. وباستثناء باكستان وتركيا وروسيا، فأينما يممت طهران وجهها، تجد دولاً أضعف منها، تخشى من نيّات جارتها الرهيبة. ويصح هذا الوصف بشدة على دول الخليج العربي. في المقابل، ونتيجة فرادة الإيرانيين بين جيرانهم، سواء من ناحية قوميتهم أو مذهبهم، وبسبب ضخامة التهديد الذي واجهوه في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، فإن حكام طهران يخافون مما يصفه مستشار الإمبراطورية الألمانية، أوتو فون بيسمارك، “كابوس الائتلافات العدوانية” ضد بلادهم. من جهة أخرى، تهتم واشنطن بإيران، لأنها تتموضع في منطقة “الحافة” الملاصقة لقلب العالم (روسيا تقريباً). وبالتالي، تؤدي دوراً جذرياً في احتواء روسيا.
وما أن حلت نهاية عام 2010، إلا وكانت معضلة إيران في المنطقة قد برزت بشكل عميق جداً. فمنذ ثورة الخميني، عمد الإيرانيون إلى توسيع نفوذ بلادهم، رافعين راية “نصرة المظلومين” و”مقاومة إسرائيل”، ومتبعين الأساليب الأمنية زهيدة التكاليف. وفي مطلع الألفية الحالي، استغلت إيران فراغ القوة في المشرق العربي، بعد غزو العراق وانهيار التفاهم المصري السوري السعودي لزيادة تأثيرها الإقليمي. ومنّت طهران نفسها، بعد انسحاب الولايات المتحدة من العراق، بإقامة نظام إقليمي جديد، تقتسم بموجبه النفوذ مع الأميركيين، على حساب العرب. وللوصول إلى هذه النتيجة، ناور الإيرانيون ببراعة، مستخدمين نفوذهم الإقليمي (ورقتي أمن إسرائيل وحماية الاستثمارات الأميركية في العراق) وبرنامجهم النووي، درعاً وترساً، في لعبة معقدة مع الأميركيين.
إلا أن المنطقة شهدت، في الأعوام الخمسة الماضية، ثلاثة انقلابات، انعكست سلباً على النفوذ الإيراني. فالثورة السورية وصعود داعش و”عاصفة الحزم” أحدثت تحديات أمام الهيمنة الإيرانية في المنطقة. وعادت الائتلافات العدوانية لتقض مضاجع القادة الإيرانيين.
والخلاصة أن قوة إيران النسبية، مقارنة بأي دولة مجاورة لها في الخليج وآسيا الوسطى، تغريها على التدخل في شؤون جيرانها، إلا أن إيران أضعف من ائتلاف هذه الدول لصد تدخلاتها، كما أنها معزولة عنها، بسبب فرادتها الثقافية والاثنية. والاتفاق النووي المفترض توقيعه، نهاية الشهر الجاري، يضاعف من مخاوف دول الجوار الإيراني. واليوم تمتزج معضلتا سورية وإيران على الأرض السورية، فإيران تدخل بقواتها لمنع الأغلبية من الحكم، في إجراء من شأنه أن يعمق معضلتها في المنطقة.
أثرت ميزتا الكيان السوري على سورية والمنطقة، إبّان عهد الانتداب الغربي، كما برز تأثيرهما بعد الجلاء عام 1946. وخلال مرحلة الحكم الوطني، انقسمت نخب الأغلبية (في دمشق وحلب) ما بين القوى الإقليمية المتصارعة على سورية. أحدث الصراع المصري العراقي السعودي على سورية حالة من عدم الاستقرار في المنطقة. وهدأت حدة الاستقطاب الإقليمي، بعد اتحاد سورية مع مصر. وجاءت الأحداث بعد 8 مارس/آذار 1963، لتحطم سلطة نخب دمشق وحلب، لصالح بروز الأرياف. دخل ممثلو الأرياف في صراع سبع سنوات، انتهى عام 1970 بوصول حافظ الأسد إلى السلطة. وثبت أن حكم الرجل وضع حلاً للمعضلة السورية، فحكم أغلبيتها يتسبب في مضاعفات إقليمية خطيرة، فإما أن ينقسموا فيما بينهم، مشكلين إغراءً لدول الجوار، لكي تتدخل في شؤون بلدهم، أو أن يتحدوا، وبالتالي، يهددوا الموازين الطائفية والإقليمية شديدة الحساسية. فسورية تحت حكم حافظ الأسد كانت قوة استقرار، بطريقةٍ تتفق مع الإرادة الدولية، ومنعت الصراع الإقليمي من الاحتدام.
“اليوم تمتزج معضلتا سورية وإيران على الأرض السورية، فإيران تدخل بقواتها لمنع الأغلبية من الحكم، في إجراء من شأنه أن يعمق معضلتها في المنطقة“
وضع الرجل سياسة داخلية وإقليمية، حازت تفهماً غربياً ودولياً، فبينما قوّى الكيان السوري ووسع حدود تأثيره الإقليمي، أنفق جلّ موارد سورية من أجل التحكم بالأغلبية. أدارت الأجهزة الأمنية التي أقامها حافظ الأسد جهوداً متسقة، هدفت، في المقام الأول، إلى مراقبة السكان وضبطهم. ولو أن حافظ الأسد سخر هذه الموارد، من أجل عملية التنمية الداخلية، أو سعياً وراء مزيد من النفوذ الإقليمي، لكانت سورية أكثر قوة وفعالية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولكانت منافساً إقليمياً أشد بأساً من الذي كانته بالفعل. وبوضوح، استندت سورية، خلال العقود الأربعة قبل الثورة، إلى مليوني نسمة من شعبها فقط، والمؤكد أن المعادلة ستختلف، لو أن دمشق حكمت من قبل من يستند/تستند إلى 16 مليون سوري.
وفجرت الثورة المعادلة التي أرساها حافظ الأسد لحكم سورية. حرّكت الثورة صراعاً في سورية، وعليها بين القوى الإقليمية والدولية، وأعادت الهواجس الداخلية والإقليمية والدولية من حكم الأغلبية، كما أن الانقسامات داخل هذه الأغلبية عادت إلى الظهور. وزاد من تعقيد المعضلة السورية انخراط الأقليات في سورية في لعبة المحاور الإقليمية الخطيرة.
وبينما يحار العالم في وضع ترتيب جديد للمعضلة السورية، تلقي المعضلة الإيرانية، على بعد ألفي كيلومتر، بظلالها على النظامين الإقليمي والدولي.
جغرافياً، تتوسط إيران مجموعة من الدول ذات المواقع المختلفة، على سلم القوة الإقليمية. وباستثناء باكستان وتركيا وروسيا، فأينما يممت طهران وجهها، تجد دولاً أضعف منها، تخشى من نيّات جارتها الرهيبة. ويصح هذا الوصف بشدة على دول الخليج العربي. في المقابل، ونتيجة فرادة الإيرانيين بين جيرانهم، سواء من ناحية قوميتهم أو مذهبهم، وبسبب ضخامة التهديد الذي واجهوه في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، فإن حكام طهران يخافون مما يصفه مستشار الإمبراطورية الألمانية، أوتو فون بيسمارك، “كابوس الائتلافات العدوانية” ضد بلادهم. من جهة أخرى، تهتم واشنطن بإيران، لأنها تتموضع في منطقة “الحافة” الملاصقة لقلب العالم (روسيا تقريباً). وبالتالي، تؤدي دوراً جذرياً في احتواء روسيا.
وما أن حلت نهاية عام 2010، إلا وكانت معضلة إيران في المنطقة قد برزت بشكل عميق جداً. فمنذ ثورة الخميني، عمد الإيرانيون إلى توسيع نفوذ بلادهم، رافعين راية “نصرة المظلومين” و”مقاومة إسرائيل”، ومتبعين الأساليب الأمنية زهيدة التكاليف. وفي مطلع الألفية الحالي، استغلت إيران فراغ القوة في المشرق العربي، بعد غزو العراق وانهيار التفاهم المصري السوري السعودي لزيادة تأثيرها الإقليمي. ومنّت طهران نفسها، بعد انسحاب الولايات المتحدة من العراق، بإقامة نظام إقليمي جديد، تقتسم بموجبه النفوذ مع الأميركيين، على حساب العرب. وللوصول إلى هذه النتيجة، ناور الإيرانيون ببراعة، مستخدمين نفوذهم الإقليمي (ورقتي أمن إسرائيل وحماية الاستثمارات الأميركية في العراق) وبرنامجهم النووي، درعاً وترساً، في لعبة معقدة مع الأميركيين.
إلا أن المنطقة شهدت، في الأعوام الخمسة الماضية، ثلاثة انقلابات، انعكست سلباً على النفوذ الإيراني. فالثورة السورية وصعود داعش و”عاصفة الحزم” أحدثت تحديات أمام الهيمنة الإيرانية في المنطقة. وعادت الائتلافات العدوانية لتقض مضاجع القادة الإيرانيين.
والخلاصة أن قوة إيران النسبية، مقارنة بأي دولة مجاورة لها في الخليج وآسيا الوسطى، تغريها على التدخل في شؤون جيرانها، إلا أن إيران أضعف من ائتلاف هذه الدول لصد تدخلاتها، كما أنها معزولة عنها، بسبب فرادتها الثقافية والاثنية. والاتفاق النووي المفترض توقيعه، نهاية الشهر الجاري، يضاعف من مخاوف دول الجوار الإيراني. واليوم تمتزج معضلتا سورية وإيران على الأرض السورية، فإيران تدخل بقواتها لمنع الأغلبية من الحكم، في إجراء من شأنه أن يعمق معضلتها في المنطقة.
العربي الجديد – أنيس الوهيبي