احدى السمات الرئيسة للمثقف الأصيل، هنا وفي كل مكان في العالم، هي في كونه مثقفاً معارضاً. فموقع المعارض وحيز النقد والاعتراض على السُلطات المتنوعة لا يرتبط عند المثقف الأصيل بنظام حكم محدد بذاته، بل يشمل كل سلطة متسيّدة وكل نظام حكم بغض النظر عن صفاته إن كانت ديموقراطية أو أوليغاركية أو ثيوقراطية، حيث إن معارضة المثقف معارضة مبدئية مرتبطة بالنقص الملازم للواقع العــياني والسياسي في العالم، وحيث أن قياس المـــثقف الأصيل ومواقفه تحددها مبادئ الحق والعدل والجمال والحرية والكرامة الإنسانية، وهي مبادئ مثالية لا ينتهي السعي إليها وتحسين شروطها في الواقع.
إن انطلاق المثقف المبدئي من الوجود إلى الوجوب، وبحثه الدائب عما يجب أن يكون مقابل ما هو كائن، يجعل من المثقف الأميركي أو الفرنسي أو السوري… الخ، مثقفاً غير راضٍ عن نظام السلطة في بلاده، ويسعى دائماً لفضح الفشل السياسي أو الاقتصادي أو التربوي… في الأنظمة القائمة، ونقدها بأدوات التحليل والتفسير والمقارنة والتعرية وتبيان المثالب في صلبها، “بحثاً عن عالم أفضل” إن استعرنا عبارة كارل بوبر.
لكن تلك الميزات التي تميز المثقف الأصيل عن غيره من “المطبلين والمزمرين” للواقع كما هو، وللأنظمة السياسية كما هي، تصبح أكبر سيئات السياسي عندما يكون معارضاً سياسياً، وتصبح لوثة المعارضة عندما تختص بجماعة سياسية معينة.
المعارضة السورية هي بطلة هذا النوع من المعارضة، حيث يصح تسمية المعارض السوري خلال السنوات الأربع الماضية بـ”المعارض المطلق”، فهو معارض للنظام، ومعارض للمعارضة، ومعارض لمعارضة المعارضة، وعندما ينتسب لهيئة سياسية معينة يصبح معارضاً من الداخل لمعظم أشخاصها، هو موالٍ فقط لذاته وللقضية التي تصبح قضية مجردة هي القضية السورية.
لكن القضية السورية التي يخدمها الجميع كلُّ من جهته (وغالباً بنوايا صادقة معروف أين مؤداها)، تصبح القضية المغدورة من الجميع، وتصبح مثلها مثل القضية الفلسطينية بالنسبة للأنظمة العربية الحاكمة، مشجباً لابتزاز الناس والوصاية عليهم، وعتبة للصعود على ظهور المنكوبين، ومنبراً للمزاودة على الآخرين، ومرتعاً للانتهازية و “الشحادة” السياسية والمالية وغيرها.
الفردية والاستقلال وانعدام التمذهب في الأطر المغلقة، التي هي أهم مميزات المثقف، تصبح أكبر سيئات المعارض السياسي، حيث لا معارضة بلا روح جماعية، وبلا اندماج في أهداف محددة، وبلا التزام في اطر ثابتة.
السياسة التي تقوم على المصالح وموازين القوّة وإدارة علاقات القوّة، تلوثها الثقافة التي تقوم المبادئ ومعايير الحق والخير والأخلاق والجمال، ولكي تصبح الثقافة رافعة للسياسة لا عقبة في طريقها، لا بد أن تحتاز السياسة على القوة اللازمة والكافية لطرح ثقافتها، وإلا أصبحت الثقافة هي سياسة مقنّعة ورخوة، وأصبحت السياسة ثقافة منحطَّة هاربة من التزاماتها.
يمكن بالتأكيد تبرير ما حصل ويحصل مع المعارضة السورية بالنظر إلى غياب الحياة السياسية في البلد خلال العقود الأربعة الماضية، ولكن التبرير هو إخلاء من المسؤولية الواجب تحملها أمام ثورة الشعب السوري، وما يبدو غير قابل للتبرير أو حتى للفهم هو تلك البديهية التي تقول إننا في حالة حرب، وما يحصل في كل الحروب هو أن موازين القوة، والقوة وحدها، هي الحامل الأساسي للسياسة، ولذلك يبدو مدهشاً كيف يتعامل العديد من أطياف المعارضة بما يبدو إنكاراً مطلقاً للحرب، وكأن الحياة السياسية في أفضل حالاتها وسلميتها. وكأن خلافها مع السلطة هو خلاف على مقاعد البرلمان أو قانون الأحوال الشخصية، لا خلافاً وجودياً تُقتَلع في سبيله البشر، بمئات الآلاف، من وجودها الفعلي أو الرمزي أو المكاني والزماني.
السياسة هي الحل. صحيح جداً من حيث المبدأ، ولكن لا يمكن أن تتعامل مع السياسة في زمن الحرب بذات الطريقة في زمن السلم وتنجح!
الحياة – ماهر مسعود