كشف الجدل المحتدم حول فكرة الفيدرالية مدى التباينات بين السوريين، وقصور قدرة معارضتهم السياسية، خمس سنوات، على إدارة هذا النقاش، أو الاختلاف، لضمان إيجاد إجماعات جديدة، تؤدي إلى تصور مستقبل مشترك بين السوريين، بكل أطيافهم.
وجاءت ندوة الحوار التي أقامها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حول المسألة الكردية والفيدرالية لتشكل نقطة انعطاف مهمة في آلية التعاطي مع الطروحات المقدّمة، أو المفترضة، لشكل الدولة المحتملة، فهذه المرة لم يكن النقاش حول الفيدرالية في غرفةٍ مغلقة، كما أنه لم يكن حواراً من طرفٍ واحد، بل كان حواراً بين قوى سياسية متعدّدة، اختلفت حول أحقية الطرح ومشروعيته، وملابسات وجوده على الساحة السياسية، بل وحول تفسيراته القانونية، ومفاعيلها السياسية. وربما تكون هذه الحالة الأولى التي تخرج بها تلك القوى في البوح السياسي، من تحت الطاولة إلى ما فوقها.
وإذا كنا في معرض الحديث الصريح، فعلينا الاعتراف بأن رفض فكرة الفيدرالية كان على ما يبدو ردة فعلٍ متعجلة، كأن بعض المعارضة يفكّر بطريقة النظام، أو يظنّ أنه سيرث النظام كما هو، مستبطناً، في ذلك، رؤية تنم عن عصبيةٍ قومية، ورفض للآخر. بينما كان على كيانات المعارضة أن تكون الأكثر حرصاً على توسيع أفقها، وتطوير مفاهيمها، وتمثيل أغلبية السوريين، بكل مكوّناتهم، لأنها المعنية باستقطاب القوى الكردية إلى جانبها، لا أن تتركها لقمة سائغة للنظام.
ولعل ما تقدّم كان نتيجة بعض الشبهات حول مواقف وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وممارساته ومليشياته (قوات الحماية الشعبية)، وفرضه الإدارة الذاتية في مناطقه، من دون العودة إلى إرادة كل السوريين، بما يتعلق بشكل دولتهم المرجوّة، لكن هذا تحديداً لا ينبغي أن يدفع المعارضة نحو مقاطعة المفاهيم الصحيحة، كالفيدرالية مثلا، فقط لكونها تتقاطع مع مصالح هذا الحزب، فهذه ردة فعل غير منطقية وساذجة ومضرّة، لأن مستقبل سورية يفترض أن يشارك الجميع بصوغه. فهل نكون ضد الديمقراطية، لأن إسرائيل تنتهج الديمقراطية في علاقة الدولة بمواطنيها الإسرائيليين؟
من المفيد طرح فكرة الفيدرالية للنقاش وتوضيح أبعادها، لمعرفة مدى تطابقها مع أهداف الثورة، بإنهاء الاستبداد وإقامة دولة مدنية وديمقراطية، تضمن المساواة بين المواطنين. لذا يتحدد فهمنا للفيدرالية على الأسس التالية:
– أولاً: قيامها على وحدة سورية وطناً لكل السوريين، أي الفيدرالية نوعاً من تنظيم للإدارة، وتنظيم تقاسم الموارد، لمنع تسلط المركز، واستحواذه على معظم موارد البلد، وضمان توسيع المشاركة في الحكم وصياغة القرارات المصيرية.
ثانياً: الفيدرالية لا تعني قيام كل ولاية أو محافظة بإقامة علاقات خارجية أو تشكيل جيش أو عملة أو علم خاصين بها، وإنما تعني إدارة شؤونها في قضايا التعليم والصحة والخدمات والأمن الداخلي، أما الشؤون السيادية، وضمنها الخارجية والدفاع وإدارة الاقتصاد، فتبقى في يد السلطة المركزية.
ثالثاً: تقوم الفيدرالية على أساس جغرافي، وليس على أساس قومي أو طائفي، لأن ذلك يتناقض مع الديمقراطية، ومع دولة المواطنين الأحرار المتساوين.
رابعاً: في الدولة الفيدرالية الديمقراطية الليبرالية، لا يتم تعريف المواطن بقوميته أو دينه أو مذهبه أو جنسه، فالمكانة الحقوقية متساويةٌ لكل المواطنين، من دون أي تمييز بسبب الدين أو الإثنية أو الجنس. ويستنتج من ذلك كله أن الدولة الديمقراطية الفيدرالية تكون محصنةً ضد الاستبداد الذي يفضي، في أغلب الحالات، إلى الدولة التسلطية أو الاستبدادية.
وعلى هذه الأسس، فإن محاولة بعض أطياف المعارضة استبعاد هذا الخيار، حتى ضمن خيارات الحوار والنقاش، تشكل نقطة استدارة نحو خطابٍ أقرب إلى ما يتذرّع به النظام، بخطابه القومي الذي يُقصي الآخرين، وتحت شعاراتٍ هو أبعد ما يكون عن العمل بها، ناهيك عن إيمانه بعكسها.
قصارى القول: سورية التي نذهب إليها بحواراتنا، وصوغ إجماعاتنا الوطنية من خلالها، أفضل بكثير من سورية التي ستمنح لنا على ورق روسي، بامتياز أميركي.
العربي الجديد