“الصيف ضيعت اللبن” نقرأ في كتب اللغة عنه أنه مَثَلٌ عربي شهير، يضرب لمن ضيّع الفرصة، وفوّت الغنيمة، وترك المجال الرحب الواسع، ولم يكن له من ذكاء عقله، ومن شرف نفسه، ومن قوة عمله، ما يجعله محصلاً لمكاسب دنياه، ومدخراً لمآثر أخراه.
كلما مرّت العبارة على سمعي، تجسدت المعارضة السورية حالة نموذجية ينطبق عليها هذا المثل، فلقد ضيعت المعارضة الفرصة تلو الأخرى، من دون مبرر يشفع لها. لم تستطع أن تكون البديل الأخلاقي عن نظام خرج عن كل المنظومات الأخلاقية. اقتربت المعارضة كثيراً من ممارسات النظام، سلوكها السياسي والإداري والإعلامي لم يعد مفارقاً لسلوكه، ولا يشكل نقيضاً عنه، حتى بات الفارق بين المعارضة والنظام في امتلاك الأدوات، وليس في البعد الأخلاقي الذي كان يجب أن يشكل جوهر سلوك المعارضة، وعلامتها الفارقة عن النظام.
فمنذ أن انطلقت الثورة السورية، كان محركُها الأساس شباباً لم يتجاوزوا منتصف العشرينيات، كانوا القوة المحركة للتظاهرات. هم المنظمون والمتظاهرون. كان وجودهم مربكاً للنظام، لأنه، للمرة الأولى، يواجه أناساً لا يعرفهم، ولا يمكن له أن يتنبأ بسلوكهم، كانوا أشباحاً بالنسبة له. ولذلك، احتار النظام في الآلية المناسبة للتعامل مع عدو بقي مجهولاً بالنسبة له، في المرحلة الأولى. قام النظام بالانقضاض على هذه الشريحة العمرية بشكل عشوائي، وركز، في بدايات الثورة، على اعتقال طلاب الجامعات السورية والخريجين حديثي العهد، حتى زاد عدد المعتقلين من هذه الشريحة على ثلاثين ألفاً في الأشهر الستة الأولى، وضمن بهذا الأسلوب العشوائي في الاعتقال إبعاد هذه الشريحة المتعلمة والقادرة على إدارة الحراك السلمي من الشارع.
وبعد ذلك، بدأ إعلام النظام وسياسيوه، وحتى رئيسه، بالتشكيك بأن الثورة التي لا قيادة لها، ولا عنوان واضحاً لها، مجرد ثورة افتراضية. كان النظام يسعى، بأي شكل، إلى ظهور قيادة يستطيع قراءتها، وتكييف سلوكه مع سلوكها.
كان تأسيس المجلس الوطني السوري، في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2011، يوما فرحاً للنظام، لأنه، للمرة الأولى، سيواجه أناساً، يعرفهم جيداً، ويعرف النسق السلوكي الذي يتبعونه، يعرف نمط تفكيرهم وردود فعلهم. كان هذا التأسيس ضربة لقيادات الثورة الشابة التي اضطرت للاعتراف بقيادة المجلس لهم، وتمثيله الثورة بسبب عوامل عدة. ومع ذلك، فشل المجلس في تمثيلهم، وقيادة حراكهم، لأن أعضاءه كانوا خليطاً من طامحين وطامعين وحالمين ومعارضين، قارعوا النظام فترة طويلة، لكنهم لم يستطيعوا تجاوز ذواتهم، وتغيير نمط سلوكهم.
كان الطامحون والطامعون والحالمون يشكلون أغلبيته. داعبت مخيلاتهم تداعيات التجربة الليبية، وتخيلوا قصر الشعب الذي سيعقدون اجتماعاتهم فيه، بعد أن تقصف الطائرات الأميركية قوات النظام. خدعوا أنفسهم ولم تخدعهم أميركا. كانت الولايات المتحدة واضحة، منذ البداية، بعدم التدخل عسكرياً في سورية، وبأنها لن تضغط من أجل انهيار سريع للنظام.
تحدثت هيلاري كلينتون بصراحة في لقائها الأول مع قيادة المجلس الوطني، في 6 ديسمبر/كانون الأول عام 2011، حيث قالت كلاماً واضحاً عن ضرورة حماية الأقليات والنساء، وعن حكم القانون، وأن المشكلة ليست إزاحة الأسد، بل هي في حكم القانون وحماية الحريات الذي يجب أن يسود بعد حكم الأسد، وعندما سئلت عن التدخل، قالت إن عدد الضحايا لا يسمح الآن ببحث التدخل. فهم بعضهم أن كلينتون تقول إذا زاد عدد الضحايا فإننا سنتدخل. مارس الطامعون والحالمون وهم الذات المدمر، كانت قراءتهم للواقع الدولي والإقليمي وللموقع الجيوسياسي لسورية سطحية، تنم عن عقم سياسي متجذر فيهم.
استمر سياسيو المعارضة في صياغة خطاب سياسي، أقل ما يمكن أن يقال فيه إنه كان ردة الفعل التي يتوقعها النظام منهم. زاد النظام من وحشيته، بعد تأسيس المجلس الوطني، لأنه، الآن، بات يعرف من سيواجه، وانزلق المجلس إلى المكان الذي خطط له النظام، العسكرة التي زايد فيها أعضاء المجلس الوطني، عبر الدعوات المستمرة للعالم إلى تسليح السوريين، وكأن من سيحمل السلاح خريجو معهد “الكونسرفتوار” في دمشق، وليس خريجي معهد الفتح الإسلامي ونظائرهم من الحركات السلفية التي تمجد الجهاد وثقافة الاستشهاد.
لم يستطع المجلس الوطني صياغة خطاب وطني سوري، يركز على البعد الحقوقي المنتج للقيم في الثورة السورية، بل ذهب إلى خطاب صراعي مانوي استقطابي، لا معنى له سوى تقسيم الشعب السوري بين شبيحة وضحايا، وهذا ما كان يريده النظام الذي قسم الشعب، بدوره، إلى شرفاء وإرهابيين. كان هناك بون شاسع بين التظاهرات التي تنادي بوحدة الشعب، وبأن الشعب السوري واحد، تلك التظاهرات المليئة بالأهازيج الرائعة والمتحدية، على الرغم من الألم والجراح، وبين خطاب بعض أطراف المعارضة المتشنج، والذي بدأ يلامس الأمور من زوايا الصراع الطائفي. كان المتظاهرون الذين يستشهدون برصاص جنود النظام يشيعون الشهداء، وهم يهتفون لسورية، لكل سورية، ويرفضون الانزلاق إلى فخ الخطاب الطائفي الذي يريده النظام، بينما تصدّر أولئك المعارضون الشاشات، وعبروا، وبشكل مسيء، عن مقاربات طائفية في خطابهم، يكفي فقط أن نقارن بين خطاب المعارضة ولوحات كفرنبل وداريا والزبداني وأهازيج حوران وحماه والموحسن والقورية في عام 2011، حتى نعرف كم كان الشعب السوري متقدماً برؤيته السياسية، وناضجاً بخطابه أكثر من معظم أولئك المعارضين.
ومما يدعو إلى الأسف أن “الائتلاف” الذي ورث المجلس الوطني ورث، أيضاً أخطاء المجلس والمعارضة التقليدية، وزاد عليها أنه انفصل، بشكل شبه نهائي، عن واقع الثورة وعن القضية الوطنية السورية، بسبب صراعات مكوناته على سلطات موهومة وكراسي معلقة في الهواء، غير موجودة سوى في أحلام بعض أعضائه.
كانت أمام “الائتلاف” فرصة ذهبية، لإعادة ترميم خطابه السياسي والوطني في مفاوضات جنيف، وفعلاً قدم الائتلاف وثيقةً، يمكن اعتبارها خارطة طريق عقلانية وواقعية جداً، وتشكل، بحد ذاتها، نقطة مشتركة بين كل من يريد حماية سورية وقضيتها الوطنية. كانت هذه الوثيقة من 24 نقطة، سميت إعلان المبادئ الاساسية للمرحلة الانتقالية. رفض النظام مجرد تسلم هذه الوثيقة، وكان على “الائتلاف” أن يبدأ حملة دبلوماسية وإعلامية، لشرح هذه الوثيقة وبيان أهميتها. لكنه، وبمجرد عودته من جنيف، أضاع الوثيقة في زحمة الخلافات بين كتله وأعضائه، وتم نسيانها وتجاوزها نهائياً، والغريب أن باقي أطياف المعارضة لم تستثمر في هذه الوثيقة، على الرغم من أنها قدمت خطاباً وحلولاً قريبة جداً من طروحاتها، فلا خلاف جوهرياً بين طرح هيئة التنسيق، مثلاً، ورؤيتها للحل، وبين وثيقة إعلان المبادئ، لكن الهيئة من باب “الجكر السياسي” لم تقرأ هذه الوثيقة، وتجاهلتها تماماً. وكذلك فعلت شخصيات معارضة كثيرة خارج الائتلاف والهيئة، والذين يبحثون عن حلول، متجاهلين أن الالتفاف حول إعلان المبادئ، وبغض النظر عن أنه مقدم من “الائتلاف”، قد يشكل حلاً مناسباً، يحمي سورية من التفتت، ويحمي تضحيات آلاف السوريين من أن تتحول إلى تضحيات مجانية، وسنندم يوماً أننا لم نكن في مستوى دماء الضحايا.