” أنا بدور على حطب وأنتو جمعوهم بالسحارة ونتبهو منيح لا حدا يشوفنا”، دخل جميل ابن العاشرة برفقة أخويه الصغار إلى الحديقة العامة في مدينة ادلب وهو يتلفت يمينا ويسارا خشية أن يراه أحدا فيقوم بتوبيخه على فعلته، فبعد أن نجح بالدخول سرا أخذ يكسر بعض أغصان الأشجار الرفيعة التي تقوى عليها يداه الصغيرتان، وبصيغة الأمر يطلب منهما جمعها بعد أن تقمص دور المعيل لهما وظنّ نفسه رجلا كبيرا لا يهاب شيئا وعليهم إطاعة الأوامر.
مع استمرار موجات البرد والصقيع وارتفاع أسعار وقود التدفئة وحتى الحطب اليابس، لجأ جميل لتلك الطريقة علّه يجمع في “سحارته” شبه المهترئة بعضا من القطع الخشبية المرمية هنا وهناك بالإضافة للأغصان الخضراء التي تعمّد كسرها من أشجار الحديقة ليؤمن بعض الدفء لأسرته المحرومة من مصدر الدفء الرئيسي ألا وهو والده الذي استشهد في ريف حلب بإحدى غارات طيران النظام الحاقد قبل أن ينزحوا إلى ادلب، فتكفل ابن العاشرة بتأمين متطلبات العائلة الفقيرة وتحمّل أعباء لا تليق بطفولته.
وبعد أن انتهى “جميل” من جمع بقايا “الحطب” وملأ “سحارته” شعر بنشوة النصر وبدت ظاهرة على معالم وجهه البريء وهو يركض أمام أخويه اللذين تكفلا بجرها وعند وصوله للباب أخذ يستكشف إن كان الطريق آمنا، كنت أراقبه عن بعد وما إن خرجوا اقتربت منهم فشعروا بالخجل من صنيعهم هذا لكن ما بيدهم حيلة، فقال أخوه الصغير بلا إرادة وببراءة ممزوجة بالخوف:” والله نحن ماعم نسرق حطب ولا كسرنا من الشجر لقيناهم بالأرض”، ضحكت من عفويته وبدأت أتحدث إليهم لأنسيهم خوفهم وأني لن آخذ منهم حصيلة دفئهم كما يظنون.
وبعد أن اطمأنوا من نيتي السليمة أخذ جميل يسرد لي بعفويته بعض المعلومات التي حصل عليها :” أمي بضل تقول هالمتل خبوا الأرم الكبار ليجي آذار، والأرم هيي الحطبات الكبار من جذع الشجرة، لأنو آذار هوي شهر الزلازل والأمطار هيك بقولوا أهل أول، مشان هيك عم جمع الحطبات الكبار وخبيهن لما يبردوا أخواتي بالشهر الجاي والي صار عالبواب”، يضحك قليلا ثم ينظر إلي ويسألني بحزن:” خاله أنتو كمان عم تخبوا الحطبات لآذار ولا عندكن مازوت؟”.
رغم أن تصرفه بتكسير الأغصان غير جيد وعواقبه سيئة، فالحدائق جمالها بأشجارها وبطبيعتها، لكن لجأ كثير من السوريين خلال سنوات الحرب لظاهرة “التحطيب” أي قطع الأشجار من الحدائق والغابات والأراضي الزراعية للاستفادة من خشبها في التدفئة، والبعض الآخر بقصد بيعها واتخاذها تجارة لكسب المال بهذه الطريقة الجشعة.
التفت إليّ مودعا وقال بنبرة توحي بالمشاكسة:” خاله لا تفسدي علينا، إذا بدك تعي تدفي عنا”، وكأنه يقدم لي رشوة كي أنسى ما فعل، وقفت قليلا أتأمل ماحدث فقلت في نفسي” ربما علينا لوم أنفسنا قبل أن نلوم طفلا رغم فعلته البسيطة مقارنة بأخطاء الكبار إلا أنه شعر بتأنيب الضمير، وحمل الحطبة الكبيرة ليطبق مثل والدته، ذنبه الوحيد أن طفولته محتها سنوات الحرب وأبدلتها بما يليق بها”.
المركز الصحفي السوري _سماح الخالد