الوضع العسكري في لبنان يثير التساؤل عن المغزى والحكمة من قيام الولايات المتحدة بإلقاء طوق النجاة للجيش اللبناني حيث يسيطر حزب الله على الساحة بينما تقف القوتان الأخيرتان مكتوفتي الأيدي.
لبنان بلد يتأرجح على الهاوية، مما يهدد العالم بفيض غامر من الإرهاب والمخدرات واللاجئين، فضلاً عن أشياء أخرى يعاني منها البلد، والتي يصعب حصرها، وعلى لبنان الآن المطالبة بالتبرعات لجيشه. ولكن يجب طرح السؤال، من هو البلد الذي يمد يده بحثاً عن تبرعات لدفع رواتب جنوده وإطعامهم؟
وبالطبع قامت الدول الأجنبية بالدفع خوفاً من وقوع كارثة، وفي أوائل سبتمبر تلقى الجيش عشرة أطنان من المساعدات الغذائية من الأردن، لكن الداعم الأكبر هو الولايات المتحدة، وحيثما تذهب الولايات المتحدة يتبعها الآخرون.
وقد أنفقت واشنطن ما يقرب من 400 مليون دولار حتى الآن في هذا العام للحفاظ على ما تبقى من الدولة اللبنانية، إلى جانب توفير الطعام لأولئك الذين يعيشون في فقر، فضلاً عن توفير إمدادات الغاز لإنتاج ما يكفي من الكهرباء لتشغيل المرافق الحيوية، مثل المستشفيات، كما تمول الولايات المتحدة الجيش اللبناني.
ولكن، على عكس ما هو متوقع، يجب على الولايات المتحدة أن تتنحى وأن يتنحى الآخرون معها، فلا يستحق الجيش اللبناني تلك المساعدات إلا إذا تم إصلاحه جذرياً.
الدولارات الأميركية للبنان لا تساعد في حل المشكلة، بل تزيد من حدتها.
والجيش اللبناني ليس المؤسسة العسكري الوحيدة في البلاد، فبعد حرب عام 2006 التي دارت رحاها بين إسرائيل وحزب الله الواقع تحت سيطرة إيران، أصدرت الأمم المتحدة قرار مجلس الأمن رقم 1701 لتعزيز قوة حفظ السلام الحالية (قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل”) إلى 10000 جندي بعد أن كانت 2000، كما تم توسيع مهمة القوة لتشمل تفتيش مخابئ أسلحة حزب الله المشتبه بها جنوب نهر الليطاني في جنوبي لبنان.
وتبلغ تكلفة قوة الأمم المتحدة “المؤقتة” التي تعمل منذ 43 عامًا مبلغ 500 مليون دولار سنويًا، وتساهم الولايات المتحدة بـ145 مليون دولار من ذلك المبلغ.
وبالرغم من حجمها الكبير وكلفتها العالية، إلا أن اليونيفيل قد أثبتت عجزها، كما كان عليه الحال منذ بدايات ظهورها. فقواتها التي تحاول مداهمة المواقع العسكرية الاستفزازية لحزب الله، يتم اعتراضها دائمًا من قبل “السكان المحليين” (أو عناصر حزب الله) الذين يغلقون الطرق بإطارات مشتعلة ويرشقون أفرادها بالحجارة. ومنذ عام 2006 حدد حزب الله الطرق التي يمكن لليونيفيل استخدامها والطرق التي لا يجوز لها المرور بها.
إن فشل اليونيفيل هو أحد الأعذار التي تستخدمها الدولة اللبنانية للتنصل من محاولة السيطرة على الميليشيا الوكيلة لقوى أجنبية على أراضيها. ويقول المسؤولون اللبنانيون إن حزب الله مشكلة دولية، وإذا لم تستطع الأمم المتحدة وقوات حفظ السلام الدولية التابعة لها التعامل معه، فلماذا إذاً نتوقع من الدولة اللبنانية الضعيفة وجيشها الهش النجاح في كبح جماحه؟
ولدى لبنان الآن ثلاث قوات مسلحة؛ الجيش واليونيفيل والأقوى منهما على الإطلاق هو حزب الله. وعليه، فالسيادة اللبنانية بيد ميليشيا تأخذ أوامرها من طهران بغض النظر عن مصلحة أو إرادة اللبنانيين وحكومتهم المنتخبة، وهنا يجب الذكر أن بعض المعارضين قد تمت تصفيتهم.
ويثير الوضع العسكري في لبنان التساؤل عن المغزى والحكمة من قيام واشنطن بإلقاء طوق النجاة للجيش اللبناني، حيث سيطر حزب الله على الساحة بينما تقف القوتان الأخيرتان مكتوفتي الأيدي، ويمكن بالطبع تفهم مساعدة الولايات المتحدة للقطاع الصحي من خلال توفير الحد الأدنى من الإمداد بالكهرباء لضمان استمرارية عمله.
ولكن لا يوجد مثل هذا الإلحاح أو الحاجة لمساعدة جيش لا يستطيع فرض سيادة الدولة وليس لديه الأدوات أو القدرة على المساعدة في مكافحة الجريمة المتصاعدة، بما في ذلك صناعة المخدرات المزدهرة. والشرطة التي تعمل كمؤسسة لمكافحة الجريمة في أي دولة، هي أقل موثوقية في لبنان ولا تحمي من الأنشطة غير الشرعية.
وعادة ما تعكس الجيوش صورة الدولة والمجتمع الذي تحميه، فالدول الكفؤة والقوية تنتج قوات مسلحة محترفة، بينما تنتج الحكومات المفككة والضعيفة جيوشا على شاكلتها، فاسدة وعديمة الجدوى.
وبينما قدم الجيش اللبناني نفسه في كثير من الأحيان على أنه المؤسسة الوحيدة النزيهة وغير الفاسدة و”الوطنية”، إلا أنه في حقيقة الأمر فاسد مثله مثل باقي أجهزة الدولة، فلا تعتمد الترقيات على الجدارة، ولكنها قائمة على التدخلات السياسية. كما تُعرض على كبار الضباط رواتب وامتيازات لا تتناسب مع ما يملكونه من مهارات أو مع الموارد المتوفرة للدولة.
وبينما قدم الجيش اللبناني نفسه دائمًا على أنه بعيد عن الصراع الطائفي والسياسي في البلاد، إلا أنه في الواقع كان لاعبًا سياسيًا لفترة طويلة من الزمن. ويختار الجيش اللبناني معاركه بطرق تزيد من فرص انتخاب قائده رئيساً في نهاية المطاف، وآخر ثلاثة رؤساء لبنانيين، إميل لحود، ميشال سليمان، وميشال عون خدموا جميعا كقادة للجيش.
إن ادعاء الولايات المتحدة بأن الجيش اللبناني يستحق التمويل والمساعدات المالية، ولكن ليس باقي البيروقراطية اللبنانية، هي مجرد كسل فكري. ومن يصوغ مثل تلك السياسة الخارجية للولايات المتحدة، يقوم فقط بإجراء بحث ودراسة سطحية وخالية من البحث والتقصي ليُظهر لرؤسائه وللعالم أن الولايات المتحدة تحاول المساعدة في منع انهيار لبنان. إن الدولارات الأميركية تغذي في الواقع نفس الوحش وهو الفساد وحزب الله اللذين دمرا لبنان.
وما لم يكن هناك إصلاح جوهري يشمل الجيش اللبناني أيضاً، ويمهد الطريق إلى تقليص حجم اليونيفيل، فإن المليار دولار التي تخطط الولايات المتحدة لإنفاقها على لبنان كل عام ستساهم فقط في الحفاظ على لبنان مستقرًا إلى درجة كافية حتى يتمكن حزب الله وإيران من إحكام قبضتهما عليه وإثارة الاضطرابات في المنطقة.
إذا أرادت واشنطن وعواصم أجنبية أخرى تجنب كارثة في لبنان، فعليهما الأخذ في عين الاعتبار المثل اللبناني القائل “إذا ما كبرت ما بتصغر”.
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع
نقلا عن العرب اللندنية