“ولدت سنة 1936 ومنذ كنت في العشرين من عمري وأنا أبيع الكتب.. لا أعرف مهنة غير بيع الكتب” بهذه العبارات شرع محمد الرحالي بن الجيلالي -المكنى عند سكان شرق المغرب بالمراكشي- سرد مسار حياته.
رغم أن لقبه يوحي بأن مسقط رأسه مدينة مراكش فإن الرحالي يؤكد للجزيرة نت أنه ولد وترعرع حتى اشتد عوده بمدينة فاس العاصمة العلمية للمملكة.
عاش المراكشي معظم حياته متنقلا بين المراكز التجارية لمدينة وجدة شرق المغرب، بائعا جائلا للكتب المستعملة، في البداية، ثم مالكا لأشهر مكتبة للكتب المستعملة، حتى انتهى به المطاف قبل أسبوعين نزيلا بدار المسنين “الخيرية” بتعبير أهل المدينة.
المراكشي روى للجزيرة نت مشاهد من مسيرة امتدت ستين عاما مع الكتب (الجزيرة) |
حياة مع الكتب
قبل التحاقه بدار المسنين، خبر المراكشي بيع الكتب لمدة ناهزت ستين عاما، كلها بمدينة وجدة، ولا يتذكر الكثير من تفاصيل هذه المرحلة بسبب مرض “ألزهايمر” الذي بدأ يدق جدران ذاكرته المنهكة بتفاصيل الزمن.
رغم ذلك حاول جاهدا -عندما التقته الجزيرة نت منزويا في أحد أركان غرفة الضيوف بدار المسنين- استرجاع بعض اللحظات التي قضاها في هذه الحرفة، وبالخصوص السنوات العديدة بمكتبته التي كانت تحمل اسم المراكشي بشارع طايرت.
قبل انتقاله إلى مكتبته في “طايرت” زاول نشاطه إلى جانب شخص يسمى المراكشي في خمسينيات القرن الماضي، بمحاذاة الأسوار التاريخية للمدينة القديمة (باب سيدي عبد الوهاب) وبعد وفاة رفيق دربه هذا، اقتنى المراكشي ما كان بحوزته من كتب وحاز نفس اللقب الذي يعرف به حتى اليوم.
يؤكد أن العديد من النخب والطلبة وحتى التلاميذ مروا من مكتبته، لا يتذكر الأسماء ولا المناصب التي تقلدها عدد من زبائنه فيما بعد لكن يتذكر أنهم كانوا بأعداد كثيرة، وجدوا عنده ما لم يجدوه في باقي المكتبات المنتشرة بالشارع نفسه أو حتى أرجاء المدينة وعموم الوطن، بما فيها المكتبات التي تقدم الكتب الجديدة.
ورغم ما غزا ذاكرته من اعتلال فإن طيف الكتاب لم يشأ أن يترك ذاكرته، وهو ما ظهر جليا خلال حديثه الذي كرر فيه لازمته “ملي جيت لوجدة وأنا مع الكتب ولحد الآن عندي الكتب” (منذ أن قدمت إلى وجدة وأنا بين الكتب وما زلت احتفظ بالكتب).
إدريس مصطفى لمقدم اشترى المكتبة من المراكشي وغيّر اسمها إلى المكتبة التاريخية بن إدريس (الجزيرة) |
كتب بدرهم واحد
يؤكد إدريس مصطفى لمقدم القائم اليوم على مكتبة المراكشي -في حديثه مع الجزيرة نت- أن هذا الصرح الثقافي الذي أسسه المراكشي كان يقدم العديد من الخدمات. فإلى جانب دوره المعرفي والثقافي، له إسهامات اجتماعية من خلال إعارة الكتب للمواطنين بدرهم واحد فقط.
كانت هذه الصيغة إبان تأسيس المكتبة سنة 1956 خيارا مثاليا وفي متناول الطلبة والباحثين بهذه المرحلة التي عزّت فيها المكتبات، ليس في مدينة وجدة فقط وإنما في عموم المدن المغربية.
اضطر المراكشي سنة 2014 إلى أن يتخلى عن مكتبته، فباعها للشخص الذي كان يؤجر له المحل، بعدما أصبحت سنه لا تسعفه على خوض هذه الحرفة، وبعدما وجد صعوبات في توفير الإيجار الشهري للمحل.
يؤكد المقدم -الذي آلت إليه ملكية المكتبة وغير اسمها إلى المكتبة التاريخية ابن إدريس- أن مكتبته امتداد لمكتبة المراكشي، وعاهد نفسه على الحفاظ عليها، رغم عدم رضاه على الظروف التي يزاول فيها هذه المهنة، وبالخصوص المحل الذي لا يتسع لعرض جميع الكتب التي قدرها بحوالي ثلاثة ملايين كتاب.
المراكشي رفقة عزوزي المساعد الاجتماعي بدار المسنين (الجزيرة) |
أبونا المراكشي
بعدما فقد المراكشي مكتبته الأصلية سنة 2014، تحرك بعض المحسنين -وفق ما أكده المساعد الاجتماعي يوسف عزوزي الذي أوكلت إليه مهمة مصاحبة المراكشي والعناية به- فاستأجروا له مقرا جديدا لإحياء نشاطه.
قضى في مكانه الجديد الذي لا يبعد إلا خطوات قليلة عن مكتبته الأصلية حوالي سنتين، إلا أن وضعه الصحي تأزم أكثر، فنقله المحسنون مرة أخرى إلى مقامه الحالي بدار المسنين.
للمراكشي بهذه الدار مكانة خاصة كما يؤكد عزوزي، بالنظر إلى خدماته الجليلة لعموم النخبة المثقفة بالمدينة والمملكة، فهو بمنزلة الأب. منزلة تحتم عناية خاصة، على غرار باقي النزلاء الذين يستفيدون من الأنشطة الثقافية والاجتماعية والخدمات الصحية.
أكثر ما يشغل بال عزوزي اليوم -بعد استقبال المراكشي- هو البحث له عن علاج قد يضع حدا لزحف مرض فقدان الذاكرة على ذاكرته التي تختزن عشرات الآلاف من عناوين الكتب.
يؤكد عزوزي أنه في غضون الأسبوع المقبل سيعرض المراكشي على طبيب مختص في الأعصاب والمخ، لإجراء تشخيص دقيق للاعتلال الذي يعاني منه، أملا في تحقق الشفاء.
المصدر : الجزيرة