لم يعد في المناطق المحررة امرأة واحدة -إلا ما ندر- تلتزم بيتها، وتكتفي بكونها ربة منزل، فالشوارع منذ الصباح الباكر مليئة بالنساء: منهن من غطت وجهها، ومنهن أسفرت عنه، هذه تخرج للتدريس في معهد وتلك في روضة وأخرى في مركز ترفيهي وأخريات في مسجد يعلمن التجويد وقراءة القرآن..
وهذه تعمل مستخدمة في إحدى الجمعيات أو المراكز التي باتت المناطق المحررة تعج بها، وتلك صحفية تعمل لصالح موقع صحفي جديد يَعدُ بآمل وطموحات قد تكون أكبر من مجموع كلمات اسمه الذي يملأ صفحات الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي..
حتى إن المشهد أصبح مألوفا أن ترى المرأة بائعة متجولة، فـ”أم ماهر.. أربعينية العمر” استوقفتنا ونحن في السوق أمس ( مو لازمكم لعب للأولاد، رخاص مو غاليات، بـ150 ليرة بس.. طيب نزالات للطبخ والمطبخ .. طيب … خدولكم شغلة من عندي بمية ليرة.. الله ايوفقكم) هذه أشياء بسيطة سهرت “أم ماهر” ليلها لتعدها وتصنعها من أشياء تالفة أو قصاصات لا تصلح لشي إلا لهكذا أمور، لم تخجل أم ماهر من عرض بضاعتها علينا.
كما لم تعد “أم مجد إحدى سكان حي الجامعة بالمدينة” تخجل من عملها مستخدمة في أحد المراكز بل ترد بالقول: ( الرجّال ارتحم من سنتين والأولاد مصروفهم كبر.. بدنا انعيش.. نشحد يعني؟! الشغل مو عيب!).
و”أم توفيق.. المرأة المسترجلة بعين كثير من نساء ورجال حارتها” هي الأخرى تخرج منذ الصباح تتقصد محلات بيع الجملة لشراء بضاعة لمحلها المتواضع، الذي كان بالأساس غرفة من بيتها، اقتطعتها وحولتها متجرا لبيع الألبسة الجاهزة تضاهي المحلات (المُدَوكَرة) في السوق، بل الإقبال عليها أكثر منها عدة مرات.
أما “أم محمود.. امرأة تشتهر بتوقد الذكاء والفطنة ولا تفوتها الفايتة على قولة نساء حارتها”: سمعت انو في مراكز ع تعلم الخياطة للنسوان الي متل حكايتي (أرامل).. الله يجزيهم الخير وهلق أنا التحقت بالمركز، وحاسة حالي ع بتحسن، وعندي أمل انو صير انتج شغل بعد فترة قصيرة..
الأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى، هذا على مستوى النساء اللواتي لم يفكرن يوما بأكثر من كونهن ربات منزل مكتفيات برمي حمل المنزل ومصاريفه على كاهل الرجل؛ لا لشيء بل لأنهن لم ينلن قسطا من التأهيل والتعليم ليتيح لهن أن يكن موظفات أيام الدولة على قولة عيوش الصطوف، ذات الأنف الحاد الذي لم يستقم يوما في خطابها لأحد المراجعين.
أما من تمتلك شهادة، على اختلاف تدرجاتها، فقد سعت بكل ما لديها من طموحات لتعمل في أي ميدان؛ حتى ولو كان خارج تخصص دراستها، تقول “براءة خريجة جامعية منذ 2005″ لم تدفعني الفاقة للعمل وإنما هو الشغف بتجريب حياة مختلفة عن حياتنا السابقة، حياة تتحرر المرأة فيها من كل أشكال الجائز وغير المقبول وغير المسموح: المرأة الآن أصبحت حرة بشكل كبير وأصبح العمل فرض عين عليها”.
يبقى السؤال الإشكالي الأكبر..
هل الحاجة هي وراء هذه الظاهرة؟
هل فقدان الرجال سواء لوفاة أو اعتقال أو هجرة هي الدافع؟
هل الفراغ العاطفي وارتفاع معدلات العنوسة بين الفتيات هي السبب وقد يكون السبب الأهم؟
أم أن الثورة أخيرا هدمت الجدار الذي كان يفصل بين المرأة والمجتمع، فأخذت دورها في ريادته على أكمل وجه، وتحققت نبوءة سعاد الصباح بعد 25 عاما من غزال جرح ورخام وخرافة.
شاديا الراعي- المركز الصحفي السوري