إيران دولة متعددة الإثنيات؛ ولا تحتمل أي نهج عنصري سياسي على سدة الحكم فيها، خاصة بعد الحقبتين البائستين حقبتي الشاه والمُلا، وأفضل الخطاب هو الخطاب الوطني المعتدل وفق دستور يعرف الفرد وكامل حقوقه وواجباته على أساس المواطنة ولا شيء غيرها، ولا يمكن ذلك بعيدًا عن صياغة هوية وطنية إيرانية شاملة من شأنها أن تراعي وتستوعب الاختلافات وأن تجد المشتركات التـي يُمكِن التأكيد عليها لخلق شعورٍ أقوى بالهوية الوطنية الإيرانية القائمة على القواسم المشتركة، وبالتالي فإن صياغة هذه الهوية وبناء وطنٍ للتعايش الآمن المشترك المستقر يتطلب كيانًا سياسيًّا ديمقراطيًّا يكون ممثلًا للجميع و مُعبّرًا عنهم على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم العرقية والدينية والمذهبية والمناطقية كمنظمة مجاهدي خلق الإيرانية التي تضم في صفوفها خليطًا متجانسًا من الإيرانيين أتراكًا وأكرادًا وفرسًا وعربًا وغيلك ولر وغيرهم وكذلك الحال بالنسبة للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية.
في الحقيقة لقد فاقم نشوء ما يسمى بـ الجمهورية الإسلامية من المشاكل الاجتماعية والتصدعات القائمة على الاختلاف بين مكونات الدولة واستمرار النظام الحاكم في إيران اليوم أمرٌ يهدد تماسك الدولة ووحدة مواطنيها هذا على الصعيد الوطني؛ أما على الصعيد القيمي والحقوقي فالوضع أكبر من أن يُوصف بالكارثي، وأن الأمل في أن تعمل الهوية الإسلامية كقوة مُوحدِة لكل الإيرانيين قد أخفق على نطاقٍ واسع بسبب النهج العنصري الذي يتبعه نظام ولاية الفقيه، وانعكس هذا في الجدالات المحمومة حول الحكم الدينـي في مقابل العلمانية وقيمها، وطالما بقي نظام ولاية الفقيه على سدة الحكم فإنه من غير الممكن الحفاظ على مفهوم الهوية الوطنية الإيرانية الجامعة الموحدة.
و يبدو أن الشعب الإيراني أكثر فهمًا اليوم لواقعه ومتطلباته الوطنية والحياتية؛ ذلك الفهم الذي أدى إلى قيام انتفاضات عديدة ضد الدكتاتورية من اجل الحرية، وساعده في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي بشكل عام و التلغرام بشكل خاص وقد كانا الوسيلتين اللتين أوصلتا الولي الفقيه وجميع مسؤولي وأجهزة النظام الإيراني المختلفة في إيران الى حد الجنون، فالتلغرام أحد أكثر برامج التواصل الاجتماعي شعبية في العالم وإيران حيث يتمتع بخاصية التشفير والترميز وأيضا قابلية ايجاد قنوات ومجموعات وإمكانية التحكم بها وادارتها إذ يوجد ٤٠ مليون مستخدم إيراني نشط على التلغرام، وهذا هو ما يخشاه نظام الملالي.
إن المعرفة الصحيحة للتغيرات الداخلية والدولية في العلاقة مع إيران يرشدنا الى هذه الحقيقة بشكل جيد حيث نجد أن:
● يعد الشعب الإيراني الآن نفسه لقطف ثمار انتفاضته، وفي هذا الصدد نجد أن تشكيل وحدات المقاومة المرتبطة بمنظمة مجاهدي خلق الإيرانية يتجه نحو التوسع في جميع أنحاء إيران.
● تطور الجبهة الدولية والاقليمية ضد النظام بالتزامن مع استراتيجية المقاومة الإيرانية من أجل تغيير النظام في إيران أمر غير قابل للانكار.
● تزداد شدة حرب الذئاب في رأس هرم النظام بشكل أكبر يومًا بعد يوم، وانهيار النظام يقع في بوتقة التوقعات القريبة جدًّا.
● التزايد التصاعدي لقيمة الدولار أشعل وألهب المجتمع الإيراني أكثر من أي وقت مضى وتزداد محنة الشعب الذي لم يعد لديه شيئًا ليخسره لذا فالانتفاضة مستمرة، وإن ما يحدث فى إيران اليوم لن يتوقف إلا مع تحقيق رغبة الشعب الإيراني حتى إسقاط النظام، حتى ولو توقف بشكل أو بآخر فإنه سيعود متأججًا بقوة أكثر من ذي قبل بعد أن أدرك الشعب مآسيه وكل أزماته رهينة بقاء هذا النظام وأن المخرج منها لن يكون إلا بزواله.
في مثل هذا الطريق تتجه قوتان متخاصمتان في إيران – نظام ولاية الفقيه الديني الحاكم في إيران من جهة والشعب والمقاومة الإيرانية من جهة أخرى نحو الاصطفاف من أجل المواجهة النهائية وهذا هو التغيير الكبير الذي ينتظره الجميع والذي يقترب من الوصول نحو منصة الحسم، وسيكون النصر الحتمي حليفًا للشعب والمقاومة الإيرانية.
انتفاضة الشعب الإيراني الوطنية الجارية ومآلاتها.
لا يختلف الحراك الشعبي في إيران عن كثير من الحراكات الشعبية التي شهدتها عدة دول عربية منذ عام 2011؛ بل ربما يتطابق معها حيث بدأ تعبيرًا عن الاستياء من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة ثم اكتسب طابعًا سياسيًّا بفعل التراكم الذي استمر لعقود قبله، وقد شكلت الانتفاضة الأخيرة أكبر تحدٍ للنظام الإيراني منذ عام 1979 إذ كشفت عن أزمة الشرعية التي يُعاني منها هذا النظام، وأوضحت حجم الخلل في بنيته السياسية والاقتصادية الخلل الواقع ما بين استحواذ قوات حرس نظام الملالي وفئة رجال الدين والسلطة على معظم الثروات، وبين أغلبية الشعب الإيراني الذي يُعاني ويعيش نصفه في حزام الفقر، بينما تُعدّ إيران ثاني أكبر منتج ومصدّر للغاز في العالم.
إن مشهد إيران المعاصرة مختبر يدعو إلى التفكير، فقد تصلّب حكم الشاه محمد رضا بهلوي حتى غدا عبئًا حتى على مناصريه، ولم تُفلح حركة مصدّق الوطنية عام 1952 في التخلص منه بسبب دعم قوى الاستعمار، وبعدها اجتثته الثورة الشعبية التي قامت بها الجماهير الإيرانية من جذوره، وجاء أصحاب العمائم لكي يقطفوا ثمارها ويصادروها من دون أن يكون لهم دور حقيقي كدور القوى الوطنية الأخرى، ولم يكن للملالي دور ولا تضحية فيها سوى توزيع بضعة أشرطة كاسيت تحتوي شعارات شعبوية.
انتفض طلاب جامعة طهران خلال عامي 1999 و2003، احتجاجًا على إدّعاء الرئيس الأسبق محمد خاتمي القيام بإصلاحات سياسية وهو أحد الذين سعوا لإبقاء النظام الحاكم حتى اليوم، ولم تكن تحركاته المخادعة في الداخل والخارج سوى عمليات تجميل لنظام “الولي الفقيه”، ثم جاء اندلاع انتفاضة 2017، ونوفمبر عام 2019 لتكونا جرس إنذار لاندلاع انتفاضة كبرى، ومن مدينة مشهد، ثاني أكبر مدن البلاد انطلقت في 16 ديسمبر الماضي أحدث موجات الحراك الشعبي، التي تعد الأجرأ والأوسع انتشارًا والأكثر تجاوزًا للخطوط الحمر حيث طالب المنتفضون بإسقاط الرئيس والولي الفقيه، وأعربوا عن رفضهم إهدار بلايين الدولارات على الميليشيات الشيعية في لبنان والعراق وسورية في الوقت الذي تتفاقم فيه معاناة الشعب الإيراني، واجتاحت المظاهرات أكثر من 40 مدينة، ورفع المتظاهرون لافتات تطالب بالحرية والحياة الكريمة ومواجهة الفقر، وقد تميزت عن سابقاتها بأنها تمددت أفقيًّا، حيث شملت مدنًا ومناطق بعيدة من المركز، وانطلقت من نواحٍ تُعدّ قواعد أساسية للنظام لكنها كانت عفوية تنقصها القيادة التي تجعل لها استراتيجية عامة تضمن لها التعبئة والاستمرارية، كما عصفت الانتفاضة الأخيرة بالفجوة بين الأجيال حيث ضمت أناسًا من جميع الشرائح العمرية، كما تقاطعت مع الفجوة بين النوعين الاجتماعيين حيث جمعت كثيرًا من الرجال والنساء جنبًا إلى جنب، وفي أكثر الأماكن تزعمت المرأة الإيرانية الاحتجاجات حتى في البلدات الصغيرة.
وبسبب تناقض المصالح بين الدول، ونشوء محاور متشابكة ومتناقضة إقليميًّا وعالميًّا بات من الصعب التكهّن بمآلات الحراك الشعبي الإيراني المستقبلية ومفاجآته اعتمادًا على المعطيات الراهنة سواء من جهة حجم وطبيعة التحرك أو من جهة نوعية القيادات، وما يُستشف من كل هذه المؤشرات هو أن الدعوات المُطالبةِ بتغيير النظام قد بلغت مرحلة النضج، وأن تراكمات عقود من الهيمنة المطلقة على مفاصل الدولة والمجتمع في إيران من قبل نظام ثيوقراطي استبدادي قد أفقدت النظام الإيراني عوامل قدرته على البقاء، وإذا كان مبكرًا تصوّر مآلات ما حدث في مدن عديدة في إيران؛ إلا أن هذه الانتفاضة في شكلها الممتد على مساحة واسعة يمكنها أن تكون علامة جديدة في تاريخ إيران، ينتقم فيها أبناء الذين شاركوا في الثورة ضد الشاه وأحفادهم في نهاية السبعينيات من القرن الماضي؛ من أولئك الذين خطفوا الثورة لتأخذ منحاها المُدعي الإسلامي الطائفي في أبشع صوره، بعد أن كانت ثورة العلمانيين والليبراليين والإسلاميين معًا.
ماذا عن العرب لو أسقطت النساء الملالي
تصاعدت ثورة الشعب الإيراني الباسلة وصمدت وعمت كل المدن والقرى الإيرانية، وحتى مدينة قم التي يزعم أنها أحد أهم معاقل النظام لم تُخف ما يكنه أهلها للزعامات الكهنوتية من نقمة، فثارت وأحرقت فيها حوزات وحسينيات. لو نجحت ثورة الشعب الإيراني فإن ذلك لن يكون انتصارًا للشعب فحسب؛ بل لكل الأحرار في العالم الذين ينتظرون هذا الانتصار ولشعوب المنطقة كلها خاصة الدول العربية التي عانت منذ ما قبل عام 1979م من الحروب والقلاقل والدماء والخراب وتأخر التنمية وتأجيج الطائفية وشيوع الكراهية بين المختلفين طائفة أو دينًا أو عرقًا أو شعبًا أو إقليمًا بسبب فكر خميني الأسود المتخلف الذي حملته ما أسماها بـ “ثورته الإسلامية” المدعاة وعملت على تصديره بشروره وتعصبه وكراهيته ودمويته إلى الدول العربية والعالم.
الأهم اليوم هو أن يسقط نظام ولاية الفقيه وأن يندثر فكره الكهنوتي العفن إلى الأبد، أما كيف ستكون إيران سياسيًّا بعده، ذلك ما أوضحه برنامج المواد العشر للسيدة مريم رجوي بخصوص مستقبل إيران، والنجاح الأكبر المنتظر هو سقوط النظام الذي سيكون مدويًّا وغريبًا ومثيرًا لألف سؤال عن ضعفه وكرتونيته وانشقاق بعضه على بعض، وستتهاوى بسقوطه المدوي عروش أنظمة إجرامية وأحزاب شيطانية آذت المنطقة وسعت فيها خرابًا وفسادًا، فستتلاشى القوة الهلامية للطائفيين في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن، وسيندثر حزب الله اللبناني وأنصار الله الحوثي، وسيضمر تنظيم الحزبين إلى أن يذبل وينتهي، وستكون “داعش” و”بوكو حرام” و”القاعدة” قصصاً تاريخية محزنة، أما الإخوان المسلمون فسيكتبون مذكرات تنظيم أصبح في عداد الموتى! وستنتقل المنطقة بسقوط ولاية الفقيه من الحروب والعسكرة والتسليح والتأجيج الطائفي والتزمت الديني إلى البناء والتنمية والرخاء، لكنّ تاريخًا من المساءلة قد يلاحق أولئك الذين سعوا إلى دعم نظام الملالي والإذعان له وهو في ذروته اندحاره وسقوطه وتعديه على حرمة الدول والشعوب العربية، وستكون فرحة اللبنانيين والعراقيين واليمنيين والسوريين والأردنيين والبحرينيين كبيرة جدًّا.
د. سامي خاطر / أكاديمي وأستاذ جامعي