انطلق الحراك السلمي في سورية على أرضية انعدام الحياة السياسية والمجتمعية الحقيقية في البلاد طوال أربعين سنة خلت، أي مع وجود إجماع على انعدام وجود مجتمع مدني سوري فعلي (أو أحزاب سياسية فعلية). وعلى الرغم من أن استعادة هذه الحياة كانت جزءاً أساسياً من الحراك المطلبي، إلا أن حدّة الانقسام والاستقطاب بين موالي النظام ومعارضيه سرعان ما جعلت من مفهوم المجتمع المدني جريمةً كبيرةً وتهمة شنعاء، فطاول أصحاب هذا الرأي التخوين والتهجم والتهميش باعتبارهم رماديين، تياراً ثالثاً، خونة للثورة، متساهلين مع المؤامرة، متلونين… إلخ.
مع تطاول الأزمة، وازدياد الأوضاع سوءاً وتراكم الآثار السلبية من خسائر بشرية ودمار للبنى التحتية وتهجير للأهالي من وإلى داخل سورية وخارجها، فجأة تحوّل مبدأ “المجتمع المدني” المخوّن والمصنّف “درجة ثالثة من السوريين” إلى حل وجد كثيرون فيه فرص التمويل والكسب، فبدأت فكرة العمل المدني تتفشّى حتى ضمن المجموعات السياسية، وبدأ تسويق مؤسسات “مدنية” تحت غطاء سياسي، كان في بعض الأحيان مكشوفاً (كالأمانة السورية للتنمية المرتبطة بالنظام، ووحدة تنسيق الدعم المرتبطة مباشرة بالائتلاف المعارض).
لم يكن هذا التحول المفاجئ نحو تقبل “المجتمع المدني” مسألة وعي أو إدراك لأهمية المبدأ في ذاته، ولم يكن يحاول العمل على حل الاستعصاء السياسي أو تخفيف الاحتقان، بل كان مجرد تحوّل براغماتي، لتأمين مصالح تمويلية وسياسية أحياناً. هذا على مستوى القمة، أما على مستوى القواعد، فقد وجدها مئات من الشباب السوريين في الداخل والخارج فرصةً للعمل وتأمين سبل العيش عبر هذه المؤسسات؛ مع الاحتفاظ بشيء من راحة الضمير أو العزاء بأنه عمل يخدم سورية بشكل أو بآخر.
بهذا، نشأ المجتمع المدني مشوّهاً مرتين، أولاً ككيانٍ لا يحمل من مبادئ المجتمع المدني أو قيمه إلا الاسم الدعائي، وثانياً عبر نشوء توأم أحدهما مجتمع مدني “معارض” والآخر “موال”، انتشر على شكل شبكتين عريضتين في الداخل والخارج السوريين. ولا عجب في أنهما فشلا في حل الأزمة التي تشكلت بفعل الاستقطاب السياسي. فكان من الطبيعي والمتوقع أن يفشل كل منهما في أن يكون الحاضنة الجامعة لكل الخلافات السياسية، وأن يصبّ عمله في ردم الهوة بين الأطراف المتعاركة. اليوم لا تمثل قضايا “حقوق المرأة” و”حقوق الطفل” و”الرعاية الصحية” و”أحقية التعليم” أي قيمةٍ مضافة، إذ إنها لا تجمع أغلب الأطراف للاتفاق في الوقوف على أي أرضيةٍ مشتركة، وعادة ما تتحوّل هذه القضايا إلى مجرد أوراق لطرفٍ ضد طرف، كما هو في حق الأمن الغذائي الذي استخدم في سياق مخيم اليرموك في طرف، وفي سياق قريتي نبل والزهراء في طرف مقابل. من هنا، فإن المبدأ الذي كان حريّاً به إخراج البلاد من مستنقع حربها الطويلة، لم يوّظف إلا كأداة لاستمرارها، بل وتأجيجها أحياناً. وبكل صراحة، لا يمكن أبداً إغفال علاقة كثير من هذه المنظمات باقتصاد العنف الدائر في سورية.
قد يبدو في السياق السوري العام اليوم بعض الأمل، في أن الاستقطاب السياسي توارى خلف أزمات الوضع الإنساني السيئ في الداخل والخارج على حد سواء. لكن، من داعي الأسف أن الاصطفاف السياسي (الثوري/ الأنتي ثوري) ما زال مقياساً كبيراً، بدليل أن مجموعات العمل المدني “الموالية” لا تقبل العمل مع المجتمع المدني “المعارض” لا كأفراد، ولا كمجموعات، ولا كمؤسسات، والعكس بالعكس.
صحيح أن الأمل والتعويل يبقى معقوداً على جزءٍ من الشباب غير المنحاز كلياً لأي جهة، وما زال يؤمن بضرورة “العمل المدني” و”الفكر المدني” و”الدولة المدنية”، وهم تحديداً الشباب غير المتطرّف في موالاته أو في معارضته؛ لكن المساحة ضيقة جداً على هؤلاء، وليس أخطر من الفكر المدني الذي يرفض التسييس بالنسبة إلى جميع من يعيشون على تسييس الوضع السوري بأصغر تفاصيله، لا النظام السوري فقط، ولا الجهات المعارضة فقط، بل أحياناً، وشر البلية ما يضحك، مؤسسات “مدنية” تكسبت وتتكسب من الأزمة الحالية.
يبقى هذا الأمل وهذا التعويل رهن التمني، إلى أن نجد مؤسسات شبابية سورية، تتجاوز أي اصطفاف سياسي وأي خلفيات أيديولوجية، فتعمل بحرفيةٍ ومهنيةٍ لتستقطب موالين ومعارضين ومحايدين في أي مكان في سورية، تحت اسم “مجتمع مدني” حقيقي، يرفض الانحياز السياسي، لكنه لا يتنصل من انحيازه لقضايا المدنيين وحقوقهم المشروعة، ومدّ الجسور بينهم أينما كانوا.
العربي الجديد