قبل الثورة، كان هناك قلة من السوريين تعتقد بوجود مجتمع سوري، بل إن أغلبية المعارضين كانت تؤمن أن مجتمع سوريا ليس غير مفهوم، تجريدي لا مقابل له في الواقع، وأنه لا يعدو أن يكون مجموعة كسور متنافرة، منفصلة ومتكورة على ذاتها، تتعايش بسلام بفضل يد النظام القوية، أو أنه بالأحرى حطام وبواقي مجتمع كان قيد التشكل قبل استيلاء البعث على السلطة، لكنه أقلع عن الوجود بعد تعرضه لتجربته السلطوية الشمولية / الطغيانية، التي خضع لها منذ عام 1963، واستندت على تكوينات ما قبل مجتمعية، كالطوائف التي تم تنظيمها أمنياً وتعبئتها بعضها ضد بعضها الآخر.
عندما تشكلت “الهيئة التأسيسية لجان إحياء المجتمع المدني” في نهاية شهر مايو من عام 2000، قبل اثني عشر يوماً من وفاة حافظ الأسد، وجعلت منطلقها مقولة ترى في السياسة فاعلية مجتمعية مباشرة، تتخطى أي تنظيم حزبي، أو أنها لا تكون سياسة، سأل كثيرون بتحد: عن أي مجتمع تتحدثون، وأين هو هذا المجتمع الذي تكلفونه بانتهاج سياسة تكون فاعليته المباشرة، بينما مجتمعنا إما غائب أو مهشم ومقطع ومبعثر على شكل تجمعات أو بالأحرى “جمعات”، آمن مفكر كإلياس مرقص أنها تفتقر إلى قيم مشتركة، تجعل منها تشكيلاً نوعياً يختلف عن كل واحدة منها، ويتخطاها جميعها، هو المجتمع.
كان السؤال مشروعاً في نظرنا نحن أيضاً، مع أننا كنا مؤمنين بقدرة الحرية على إحياء الموتى سياسياً، وبأن مجتمعنا لن يكون استثناء القاعدة، بل ساحة ستؤكد صحتها. وكان رهاننا يركز أولاً: على الفئات المثقفة والمتعلمة والمبدعة من الطبقات البينية، بما لديها من حساسية خاصة تجاه مسألة الحرية، بحكم موقعها من المجتمع ودورها فيه، ورؤيتها التي تجعل من الحرية رأس ماله وحاضنته، وثانياً: على أصحاب المصلحة الاقتصادية والاجتماعية في النشاط الحر، الذين كان النظام يقاسمهم ثرواتهم ويهدد وجودهم العام والفردي.
وكانت فرضياتنا ترى أن الحرية ما إن تتحول من شأن شخصي إلى شأن عام، ومن شأن عام إلى شأن شخصي، حتى تصير مادة متفجرة، تدفع حاملها إلى التمرد والثورة، فإن التقى الشأنان العام والخاص لدى عدد كبير من المواطنات والمواطنين على أرضية مشتركة قوامها حريتهم، غدت هذه مثابة برنامج له طاقة تحريضية هائلة، لا يحتاج حامله إلى من يوجهه أو يقوده، ما دام لا يوجد من يعرف مستلزمات وحدود حريته الشخصية، ومن يستطيع تعيين تشابكاتها العامة مثله أو أكثر منه، ومن يمكن أن يصير مرجعية سياسية له غيره هو نفسه.
… واليوم، وبعد أربعة أعوام ونصف العام من انطلاق ثورة الحرية، التي انخرطت فيها كتل وجماعات كبيرة العدد، تدامجت و”تجمعنت” بقوة رابطة وطنية حاملها مبدأ الحرية، الذي وجه خطاها ووحد حراكها، ومنحها قدراً من القوة، مكنها من احتلال الشارع والصمود في وجه آلة قتل منظمة، كبيرة العدد وكثيفة السلاح، هي جيش النظام وشبيحته، وتطوير جيش خاص، حرر ثلثي سوريا قبل ظهور تنظمات الإرهاب، وما نجم عنه من تبدل تدريجي، أصاب دورها وطبيعة معركتها وهوية ثورتها، ولكن دون أن يقوض مجتمع سوريا ويضعف صموده في وجه تحالفها مع النظام: المعلن منه والخفي.
بدل النظام العميق، الذي ألغى الدولة والمجتمع، وكان يسمى خطأ “الدولة العميقة”، برز “مجتمع سوريا العميق”، الذي باغت كل من كان ينكر وجوده ويتابع حركته، ونجح بفضل قوته الخارقة في الانتقال من السلمية إلى حال سياسية / عسكرية مركبة، احتوى خلالها نظام سياسي / أمني شديد القوة والبأس، وقضم جيشه قطعة بعد أخرى، وقوض سيطرته قرية بعد قرية، ومدينة بعد مدينة، بينما كان يتخلق كمجتمع جديد، تعد ثورته بتأسيس نمط مختلف من الدولة، حاملة الحرية ومبدأ السيادة الشعبية والمواطنة.
بانتصار مجتمعها العميق، القوي إلى الحد الذي مكنه من قهر أحد أعتى نظم القسر والاستبداد في عالم اليوم، تدخل سوريا إلى حقبة نوعية، أياً كانت القوى السياسية والعسكرية التي ستسيطر عليها، وستطوى صفحة من تاريخها أخذتها إلى مسارات مهلكة، وضع المجتمع العميق حداً لها بتضحياته التي تصدق، والتي تفتح صفحة مختلفة عن كل ما سبقها من صفحات سياسية، تفتح الباب أمام احتمالات ومخاطر ووعود شتى، لأنها ستكون صفحة صراعات لا مبالغة في القول: إنها طرفها الثاني سيبقى دوماً قوة الحرية، التي أثبتت أنها صانعة معجزات! استفاق المجتمع العميق فتهافتت الدولة العميقة وأخذت تنهار، هذا ما نراه بأعيننا، وما يؤكده الواقع.
عندما تشكلت “الهيئة التأسيسية لجان إحياء المجتمع المدني” في نهاية شهر مايو من عام 2000، قبل اثني عشر يوماً من وفاة حافظ الأسد، وجعلت منطلقها مقولة ترى في السياسة فاعلية مجتمعية مباشرة، تتخطى أي تنظيم حزبي، أو أنها لا تكون سياسة، سأل كثيرون بتحد: عن أي مجتمع تتحدثون، وأين هو هذا المجتمع الذي تكلفونه بانتهاج سياسة تكون فاعليته المباشرة، بينما مجتمعنا إما غائب أو مهشم ومقطع ومبعثر على شكل تجمعات أو بالأحرى “جمعات”، آمن مفكر كإلياس مرقص أنها تفتقر إلى قيم مشتركة، تجعل منها تشكيلاً نوعياً يختلف عن كل واحدة منها، ويتخطاها جميعها، هو المجتمع.
كان السؤال مشروعاً في نظرنا نحن أيضاً، مع أننا كنا مؤمنين بقدرة الحرية على إحياء الموتى سياسياً، وبأن مجتمعنا لن يكون استثناء القاعدة، بل ساحة ستؤكد صحتها. وكان رهاننا يركز أولاً: على الفئات المثقفة والمتعلمة والمبدعة من الطبقات البينية، بما لديها من حساسية خاصة تجاه مسألة الحرية، بحكم موقعها من المجتمع ودورها فيه، ورؤيتها التي تجعل من الحرية رأس ماله وحاضنته، وثانياً: على أصحاب المصلحة الاقتصادية والاجتماعية في النشاط الحر، الذين كان النظام يقاسمهم ثرواتهم ويهدد وجودهم العام والفردي.
وكانت فرضياتنا ترى أن الحرية ما إن تتحول من شأن شخصي إلى شأن عام، ومن شأن عام إلى شأن شخصي، حتى تصير مادة متفجرة، تدفع حاملها إلى التمرد والثورة، فإن التقى الشأنان العام والخاص لدى عدد كبير من المواطنات والمواطنين على أرضية مشتركة قوامها حريتهم، غدت هذه مثابة برنامج له طاقة تحريضية هائلة، لا يحتاج حامله إلى من يوجهه أو يقوده، ما دام لا يوجد من يعرف مستلزمات وحدود حريته الشخصية، ومن يستطيع تعيين تشابكاتها العامة مثله أو أكثر منه، ومن يمكن أن يصير مرجعية سياسية له غيره هو نفسه.
… واليوم، وبعد أربعة أعوام ونصف العام من انطلاق ثورة الحرية، التي انخرطت فيها كتل وجماعات كبيرة العدد، تدامجت و”تجمعنت” بقوة رابطة وطنية حاملها مبدأ الحرية، الذي وجه خطاها ووحد حراكها، ومنحها قدراً من القوة، مكنها من احتلال الشارع والصمود في وجه آلة قتل منظمة، كبيرة العدد وكثيفة السلاح، هي جيش النظام وشبيحته، وتطوير جيش خاص، حرر ثلثي سوريا قبل ظهور تنظمات الإرهاب، وما نجم عنه من تبدل تدريجي، أصاب دورها وطبيعة معركتها وهوية ثورتها، ولكن دون أن يقوض مجتمع سوريا ويضعف صموده في وجه تحالفها مع النظام: المعلن منه والخفي.
بدل النظام العميق، الذي ألغى الدولة والمجتمع، وكان يسمى خطأ “الدولة العميقة”، برز “مجتمع سوريا العميق”، الذي باغت كل من كان ينكر وجوده ويتابع حركته، ونجح بفضل قوته الخارقة في الانتقال من السلمية إلى حال سياسية / عسكرية مركبة، احتوى خلالها نظام سياسي / أمني شديد القوة والبأس، وقضم جيشه قطعة بعد أخرى، وقوض سيطرته قرية بعد قرية، ومدينة بعد مدينة، بينما كان يتخلق كمجتمع جديد، تعد ثورته بتأسيس نمط مختلف من الدولة، حاملة الحرية ومبدأ السيادة الشعبية والمواطنة.
بانتصار مجتمعها العميق، القوي إلى الحد الذي مكنه من قهر أحد أعتى نظم القسر والاستبداد في عالم اليوم، تدخل سوريا إلى حقبة نوعية، أياً كانت القوى السياسية والعسكرية التي ستسيطر عليها، وستطوى صفحة من تاريخها أخذتها إلى مسارات مهلكة، وضع المجتمع العميق حداً لها بتضحياته التي تصدق، والتي تفتح صفحة مختلفة عن كل ما سبقها من صفحات سياسية، تفتح الباب أمام احتمالات ومخاطر ووعود شتى، لأنها ستكون صفحة صراعات لا مبالغة في القول: إنها طرفها الثاني سيبقى دوماً قوة الحرية، التي أثبتت أنها صانعة معجزات! استفاق المجتمع العميق فتهافتت الدولة العميقة وأخذت تنهار، هذا ما نراه بأعيننا، وما يؤكده الواقع.
البيان – ميشيل كيلو