أن تميل القضية الكردية في سورية إلى الظهور كقضية قومية كردية مشرقية، أكثر من ميلها إلى الظهور كقضية وطنية سورية، فهذا يعكس فشل السوريين في إقامة اجتماع وطني، أكثر مما يعكس صعوداً قومياً كردياً. تجلى ذاك الفشل نقصاً في الاندماج الوطني في مرحلة “دولة البعث التسلطية”، ومن ثم تحولاً من طور النقص في الاندماج المتساكن إلى طور الصراع والاحتراب، بعد غرق وإغراق ثورة السوريين السلمية في مستنقع سياسات الهويّة.
تتصل قضية الكرد السوريين بثلاثة مستويات متداخلة: فهي أولاً، محكومة بإرث العلاقات المجتمعية ما قبل الحداثية الذي آل إلى الكيان السوري من تاريخه المملوكي – العثماني، ولم تستطع صدمة الحداثة، على أهميتها، دفعه إلى الهوامش، فظل هذا الإرث مبدأً أعلى حاكماً على السياسة والثقافة والاجتماع. وثانياً، تتصل بهيمنة عروبية أُريد فرضها على الكرد بفعل النزوع العنصري الشوفيني القابع في المبادئ الإبستمية والأخلاقية للأيديولوجيا القومية العربية، وبخاصة نسختها البعثية الأكثر رداءةً وفواتاً. وثالثاً، تتصل بالاستبداد السياسي ذي الطبيعة السلطانية المحدثة، والذي لم يتعامل مع السوريين على أنهم شعب موحد بالمعنى السياسي، بل عاملهم دائماً على أنهم مجموعات غير منسوجة من “الشقف” الإثنية والطائفية والمذهبية، وسط ضجيج ديماغوجيا “الثقافة القومية الاشتراكية” الصاخب.
ولأن مظلومية الكرد السوريين فعلية، وغير مبنية على الأساطير والسرديات الدينية الخرافية، كغيرها من المظلوميات، وكونها معاصرة تعود إلى الزمن البعثي القريب، وناجمة عن أفعال سلطوية وضعتهم في مواقع استلاب قومي وثقافي وتهميش اقتصادي وقهر سياسي، فإن العناصر الجاذبة في المظلومية الكردية لتشكيل فضاء وطني سوري، ينبغي أن تتغلب على العوامل الدافعة نحو قيام مشاريع قومية كردية متعارضة مع مفهوم الدولة الوطنية، بصرف النظر عن شكل الدولة المقبل في سورية أكان مركزياً أم لا مركزياً أو فيدرالياً.
وهذا تزيده صحةً حقيقة أن الواقع السوري يختزن عوامل فعلية مرشحة لدفع الكرد باتجاه مشروع وطني سوري، أكثر من احتمالية جعلهم قوة انفصالية مندرجة في مشروع هوويّ (آنتي – وطني). فقوة الدرس البيداغوجي، الذي يفترض أن ُيستخلص، من حجم النتائج الكارثية التي نتجت من تسييس العروبة في سورية، يجب ألا تُعاد بتسييس المسألة الكردية مرة أخرى. فتسييس العروبة كتسييس الكردية سواء بسواء. وينبغي أن يستوعب الكرد هذا الدرس أكثر من العرب، فمن غير المعقول أن يبدأ القوميون الكرد اليوم من النهايات المريرة التي وصلت إليها هزائم القوميين العرب.
كما لن تكون مآلات الرومانسية القومية الكردية أفضل حالاً من مآلات نظيرتها العربية، في زمن خسوف القوميات وانحسار دورها التحرري، وتحولها إلى شكل من أشكال الهويّة الكابح لمسألتي الحرية والإنسية، وارتفاع مستوى عداء الدول النافذة في الإقليم لتطلعات الكرد القومية، وتعقيدات السياسات الدولية في سورية، والآثار المجتمعية المدمرة التي أحدثها انهيار “الاجتماع الوطني السوري”. كل ذلك يجعل من الوطنية السورية مجالاً حامياً للعرب والكرد وغيرهما من القوميات الأخرى، بخاصة أن الدور الكردي دور كاسر للتطرف الإسلامي والتطرف القومي العربي، بحكم المغايرة والاختلاف، وكون القومية الكردية لا تنطوي على ذاك التحالف الوثيق ما بين الإثنية والمذهبية، على نحو ما تنطوي عليه العروبة والمذهب السني، أو الفارسية والمذهب الشيعي.
ومما يرفع منسوب تفلّت المسألة الكردية من تحالف الاستبدادين الديني والإثني، عدم وقوف دولة إقليمية (قومية كردية)، ذات توجهات إمبريالية توسعية، وراء الكرد، تذهب باتجاه الاستفادة من تشظي المجال الوطني السوري، على النحو الذي تشتغل عليه السياسات الإيرانية.
كذلك فتوزع الكرد الديموغرافي على قسم كبير من الجغرافيا السورية، وبخاصة في مدينتي دمشق وحلب، واختلاطهم الكثيف في مناطق الجزيرة السورية وشرق نهر الفرات بالعرب وغيرهم من القوميات الأخرى، يجعل الخيار الوطني السوري خياراً مفروضاً موضوعياً بقوة الجغرافيا والديموغرافيا.
وأيضاً، لم يشهد التاريخ السوري الحديث عداوات ذات طابع مجتمعي بين العرب والكرد، فالممارسات المعادية للكرد ارتدت طابعاً فوقياً سلطوياً في سياق حرب السلطة على الجميع. لذا فإن ترجيح انتصار الممكنات الإنسية والوطنية عند الكرد على حساب تراجع الممكنات العنصرية والشوفينية لديهم، هو عمل تاريخي من مسؤولية العرب والكرد معاً.
الحياة