لم يعرف عن الشاب قصي أنه من ذوي الأموال والأرزاق، ليظهر فجأة مالكاً لأحد محلات بيع الملابس في إحدى قرى حوران المحررة، فالشاب الثلاثيني، معروف لدى العامة بأنه كان موظفاً، يعيش على الراتب الحكومي الذي يتقاضاه، ولم يكن يملك “لا فوقه ولا تحته”، ولكنه أصبح بفترة عامين رغم الظروف الصعبة للعامة، من أغنى سكان قريته وأكثرهم إنفاقاً على أموره المعيشية.
ويقول قصي، “نعم كنت فقيراً، لكن الله الرزاق قد رزقني”، لافتاً إلى أنه فعلاً كان موظفاً صغيراً في إحدى الدوائر الرسمية، لكن بسبب التقارير التي لاحقته وخوفه من أن تعتقله قوات النظام، ترك عمله وعمل في مهن مختلفة، حيث كان أخوه المغترب في إحدى الدول الخليجية، يدعمه ببعض المال للحفاظ على معيشته، كما أخبر “اقتصاد”.
وأضاف قصي: “بعد الهدوء النسبي الذي شهدته بلدتي وتوقف الأعمال القتالية فيها وفي المنطقة المحيطة بها، اقترح علي أخي المغترب بأن يحول لي مبلغاً من المال، أفتتح به مشروعاً، أترزق منه، معتبراً أن المبلغ إن نجح المشروع سيكون ديناً وعلي أن اسدده متى استطعت، وإن لم ينجح سيكون مساعدة منه”، لافتاً إلى أنه افتتح محلاً صغيراً لبيع الملابس الرجالية بدايةً، ونجح، ثم افتتح محلاً آخر للملابس النسائية وملابس الأطفال وأصبح يحقق أرباحاً جيدة، استطاع خلال عام ونصف من انطلاقة المشروع أن يسدد المبلغ والبالغ نحو 6 آلاف دولار، إضافة إلى أنه أصبح يعيش هو وأسرته في مستوى معيشي جيد رغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد.
من جهته، يشير الناشط الحقوقي أبو قيس الحوراني، إلى أن “السواد الأعظم من أبناء المحافظة بات تحت خط الفقر لضعف الموارد وتوقف مسيرة الحياة الطبيعية، فلم يعد هناك أعمال مدرة للدخل، فالأعمال الزراعية توقفت بشكل شبه كامل، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، وإغلاق أسواق تصريف الإنتاج والمنافذ الحدودية مع دول الجوار، والتي كانت المشجع الأساسي والمحفز على الإنتاج الزراعي في جنوب سوريا، حيث كان من خلالها يتم تسويق الإنتاج إلى الأردن ودول الخليج العربي، كما أن أعمال البناء متوقفة لعدم وجود المواد الأولية التي عادة ما كانت تجلب من مناطق النظام، ما أدى إلى توقف حركة كثير من المهن المرتبطة بها”، وفق الناشط.
وأضاف الحوراني: “أما رواتب الوظائف الحكومية فلم تعد تكفي لمصروف شخص واحد، بسبب ضعف قيمتها الشرائية، فكيف لها أن تكفي عائلات في ظل الارتفاع المتواصل للأسعار، وصعوبة الحياة المعيشية؟!”، مشيراً إلى أن معظم الوظائف التي كانت حلماً للكثير من المواطنين السوريين طوال حكم الأسد الأب والابن، لم تعد ذات أهمية في ظل الثورة بسبب ضعف مرودها المادي، وبسبب ما يترتب عليها من إذلال للموظفين من قبل الأجهزة الأمنية، التي تجبرهم على القيام بأفعال تتنافى مع القيم التربوية والسلوكية، كأن يكونوا شبيحة أو إخضاعهم بالقوة إلى دورات تدريبية، يصبحوا بعدها قوات رديفة لقوات النظام، ولا سيما على الحواجز وفي حماية الدوائر الحكومية، الأمر الذي يعرضهم للخطر ويضعهم على قوائم الموت من قبل الفصائل المسلحة المعارضة، لتعاونهم مع قوات النظام، ما جعل الكثير منهم يفضل ترك الوظيفة، ويجلس في منزله باحثاً عن مصادر رزق أخرى.
من جهته، قال معن، وهو صاحب مكتب حوالات مالية، ويحمل إجازة في الاقتصاد، “إن معظم السكان في المناطق المحررة في درعا لا يعتمد في إنفاقه ومعيشته على إنتاجه، بل الكثير منهم يعتمد على المساعدات المالية التي تصلهم من الأهل والأبناء، على شكل حوالات بالقطع الأجنبي، ولاسيما من الأردن ودول الخليج، ولاحقاً من الدول الأوروبية، بعد موجة اللجوء الأخيرة إلى تلك الدول”، لافتاً إلى أن عشرات آلاف الدولارات تمر عبر مكتبه شهرياً إلى المواطنين والأهالي في قرى درعا المحررة.
وأضاف أن مغتربي حوران كثيرون، وكل أسرة في حوران تقريباً، إلا ما ندر، لديها مغترب في إحدى الدول الخليجية أو في أمريكا والدول الأخرى، والكل يحول إلى ذويه، لافتاً إلى أنه لولا هذه الحوالات لما استطاعت الأسر أن تعيش، ولحل الجوع والفوضى في كل المناطق المحررة.
وأشار معن إلى أن “الحوالات القادمة من الخارج لا تقتصر على تحويلات الأبناء والأهل إلى ذويهم فحسب، بل هناك أيادٍ بيضاء داخل تلك البلدان، تقوم بتحويل مبالغ مالية إلى أسر محددة، كمساعدات شهرية”، موضحاً أن هذه الأموال أسهمت في تحسين واقع الأسر في الداخل، وحافظت على بقائها صامدة في منازلها، إضافة إلى أنها أسهمت في فتح بعض المشاريع الصغيرة المدرة للدخل، للكثير من الأسر، كفتح محال تجارية ومطاعم، ما حافظ على حركة الأسواق ونشاطها في الكثير من القرى المحررة.
ويقول فايز، 42 عاماً، وأب لخمسة أطفال، “كنت موظفاً في إحدى البلديات وكان راتبي يتجاوز الـ 30 ألف ليرة سورية، كانت تسد بعض نفقات الأسرة، لكن منذ حوالي سنتين طلبت مني إحدى الجهات الأمنية في درعا مراجعتها، فخفت أن أُعتقل، واضطررت إلى ترك وظيفتي”، لافتاً إلى أنه يعيش الآن على مساعدات مالية، يحولها له أخوه من الإمارات، وهي تصله شهرياً وبمعدل مئتي دولار، إضافة إلى بعض الزيادات خلال الشتاء وفي المناسبات كالأعياد.
وأضاف فايز: “لولا هذه المساعدات لكانت حياتنا شديدة الصعوبة”.
فيما أكد سائر، وهو طالب في السنة الرابعة في كلية الطب، أنه كاد أن يترك دراسته قبل سنتين لضيق ذات اليد، وتوقف أسرته عن العمل والإنتاج، لافتاً إلى أن المساعدات الشهرية التي تصله من عمه في الخليج أسهمت في حفاظه على دراسته.
وقال إن عمه يقدم له جميع احتياجاته ومصاريفه المالية بما فيها أجرة المنزل وثمن الكتب، مشيراً إلى أنه لولا وقوف عمه المغترب إلى جانبه لضاع مستقبله الدراسي، وفق ما قال.
هذه بعض النماذج من الأسر، التي يسهم الأهل المغتربين في الحفاظ على بقائها، والنماذج المشابهة كثيرة، لكن هذه التحويلات لا تكون من أقارب بالضرورة، بل أحياناً من أصدقاء وجمعيات، يؤسسها المغتربون لكفالة أسر وأيتام، ولا سيما من أبناء الشهداء والمعتقلين، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على قوة الروابط بين أبناء الشعب السوري، والشعور الكبير بالمسؤولية تجاه أبناء الوطن، الذين يعيشون في ظروف استثنائية.
اقتصاد