“مجموعة المطالب مُصممة بشكل واضح ليس للتوصّل إلى حل سلْمي، بل لإلحاق عقاب وأضرار لا حدود لها”.
ذلك هو تعليق “جيمس دورسي” الباحث في السياسات الدولية بجامعة “راجاراتنام” في سنغافورة، على مطالب دول الحصار التي أرسلت بها إلى قطر، كشروط أساسية لإعادة العلاقات معها.
كل من يُطالع هذه الشروط يُدرك أنها تعجيزية، تحمل صِبغة الإخضاع والتجريد من الإرادة السياسية، ومِن ثَمَّ فإن القبول بها يعني إهدار السيادة القطرية.
حُزمة الشروط كانت مُتوقعة في مُجملها، عدا الشرط المُتعلّق بإغلاق القاعدة العسكرية التركية ووقف التعاون العسكري مع أنقرة على الأراضي القطرية، والذي يبدو أنه تمّ إدراجه بعد وضع قائمة الشروط.
لم تُقدم دول الحصار حتى الآن تفسيرات واضحة لهذا المطلب غير المبرر، خاصة وأنه شأن خاص بين قطر وتركيا.
أبرز التصريحات المُتعلقة بهذه المسألة جاء على لسان وزير الخارجية البحريني عبر تغريدات تويتر، لكنه استخدم التعريض دون التصريح، حيث قال أن بعض القُوى الإقليمية تُخطئ إن ظنَّت أن تدخُّلَها سيحلُّ المسألة، وأن مصلحة تلك القوى أن تحترم النظام الإقليمي القائم، ونوّه إلى أن إحضار الجيوش الأجنبية وآلياتها المدرعة هو التصعيد العسكري الذي تتحمله قطر.
الكلام قطعا واضح في أنه يعني تركيا، لكن هذا السخط على العلاقات العسكرية بين أنقرة والدوحة لدرجة وصفها بالتصعيد العسكري يضع علامات استفهام حول هذا التوقيت، فالتعاون العسكري كان بارزا في الفترة السابقة ولم نر من يتحدث عنه بهذه اللهجة فما الذي تغير؟ بل أن هذا الوزير البحريني قال في زيارته الأخيرة لتركيا أن القاعدة التركية في قطر حماية لأمن الخليج بأسره.
هل نستطيع القول أن إرسال قوات تركية إلى قطر، قد أحبط طموحات عسكرية لدول الحصار؟ هل كانت هناك نية مُبيّتة لقلب نظام الحكم في قطر وتعيين إدارة موالية لدول الحصار أفشلتها التحركات التركية؟
هي أمور لا نستطيع الجزم بها، إلا أنها فرضت نفسها كتفسير محتمل لهذا المطلب غير المبرر.
هو مطلب غير مُبرَّر، لأن التواجد العسكري التركي ليس هو الوحيد على أرض الخليج، فلماذا لم تُطالب دول مجلس التعاون بإغلاق القاعدة الفرنسية في الإمارات؟ ولماذا لم تتحدث عن استضافة أبو ظبي لزعيم شركة “بلاك ووتر” ذات الأدوار المشبوهة وتشكيل قوات من المرتزقة للقيام بمهامٍّ خاصة داخل وخارج الإمارات؟ ولماذا لم تطالب بإغلاق القواعد الأمريكية المنتشرة في الخليج؟
إن كانت دول الحصار تعتبر وجود القاعدة العسكرية التركية تدخلا في الشأن الخليجي، فإن مطالبتها الدوحة بإغلاق هذه القاعدة وفكِّ الارتباط العسكري مع تركيا يُعتبر تدخُّلا في شأن خاص بين دولتين لهما حقوقهما السيادية.
البعض حاول تبرير رفض الوجود العسكري في قطر، بأنه غير منطقي مع وجود القاعدة الأمريكية الذي يكفل استقرار الأوضاع ومنع أي توترات بالدولة التي تحتضن القاعدة، لكن كيف تُعوّل قطر على ذلك مع أن الرئيس الأمريكي ترامب من أعطى الضوء الأخضر لهذه الهجمة على قطر ومباركتها، ربما يُعضّد من هذه الرؤية تأكيدات السفيرة الأمريكية “نيكي هيلي” خلال جلسة استماع بلجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، على أنه رغم وجود العلاقات التي تربط بين أمريكا وقطر ووجود قاعدة أمريكية على الأراضي القطرية إلا أن الأولوية بالنسبة للرئيس الأمريكي ترامب هي التخلص من الإرهاب، حيث قالت ما نصه: “قطر كانت تقدم تمويلا، ونعلم أنها فعلت الكثير مع حماس، وأعتقد أن الرئيس يريد فعلا القضاء على داعش والقضاء على الإرهاب”.
والإشارة واضحة في الولايات المتحدة تُقر الهجمة على قطر باعتبارها مُموّل للإرهاب، وهو ما لا يُستبعد معه الرضا الأمريكي بأي تدخل عسكري في قطر من قِبل دول المقاطعة، أضف إلى ذلك التقارير الإعلامية المتداولة حول نيَّة الإدارة الأمريكية في نقل القاعدة من قطر إلى دولة خليجية أخرى، كل ذلك يدْعم هذه الفكرة، الأمر الذي يجعل الاستدعاء القطري للقوات التركية بناء على اتفاقية الدفاع المشترك أمرا طبيعيا، يسير وفق المواثيق والأعراف الدولية.
الحديث عن أطماع تركية في المنطقة لإعادة الدور العثماني القديم على أراضيها ليس إلا هواجس خلّفتها النعرات القومية التي فرقت بين العرب والأتراك، لأن الواقع يشهد بأن تركيا قد غزت بالفعل دول الخليج بل العالم العربي بأسره من خلال قوتها الناعمة، فليست بحاجة إلى القيام بإجراءات عسكرية استفزازية لدول الخليج، خاصة وأن تركيا لها علاقاتها المتينة مع معظم دول المجلس وبخاصة السعودية.
تركيا في سياساتها الخارجية التي قامت على تصفير الصراعات وحسن الجوار، ضمت إلى تلك السياسات الجانب الأخلاقي الذي تفتقده معظم سياسات الدول، ووقوفها إلى جانب قطر باعتبارها قد تعرضت لهجمات لا تستحقها، ولأنها حليف استراتيجي نبيل، ولم ينس الشعب التركي وقيادته ليلة الانقلاب، أن دولة قطر وقفت إلى جوار الأتراك في محنتهم منذ اللحظة الأولى، بينما كانت بقية الدول ما بين مُبتهِج يُروِّج إعلامه للانقلاب بل ويكذب في بثّ الأخبار غير الصحيحة، وما بين مُترقب لما ستسفر عنه الأحداث حتى يدلي بتصريحاته.
حدثني عن لغة المصالح بين الدول، نعم أوافقك، فما من دولة إلا وتسعى لتحقيق مصالحها وليس في ذلك غضاضة، لكن شتّان بين دولة تسعى لتحقيق مكاسب على قاعدة الربح للجميع، أو على أقل تقدير عدم الإضرار بالآخرين، وبين دولة تسعى لمصالحها على حساب سواها، بلا أي قيم من أي نوع .
ترك برس