من الواضح أن موسكو لن تبادر إلى الاعتراف بفشلها في إيصال المسألة السورية إلى نقطة ترضيها، بعد بروباغندا إعلامية ضخمة سوقت لمؤتمر أستانة الذي عقد خلال شهر يناير الماضي، واعتبرته بمثابة فصل الختام لواحد من أكثر الملفات تعقيدا.
حمل مؤتمر أستانة، الذي تفردت موسكو بتدبيره والتخطيط له، بوادر فشله مع استمرار قوات النظام والميليشيات الموالية لها في عمليات القصف والتهجير، آخرها ما حدث في منطقة وادي بردى القريبة من العاصمة دمشق نهاية شهر وقف إطلاق النار نفسه.
أخليت المنطقة، شأنها شأن مناطق أخرى، من سكانها الأصليين لتحل محلهم عناصر الميليشيات التابعة لإيران من جنسيات مختلفة. ويتوعد نظام دمشق سكان الغوطة الشرقية بأن يكون مصيرهم مشابها لمصير سابقيهم، ولذلك يواصل عملياته العسكرية ضد تلك المنطقة المستعصية عليه، دون أن يسجل مركز قاعدة حميميم لمراقبة وقف إطلاق نار، والذي تشرف عليه القوات العسكرية الروسية، تلك العمليات العسكرية بوصفها خرقا لاتفاق هدنة أستانة. وبمقدار ما تمثله العودة إلى مفاوضات جنيف والتي سوف تتم برعاية أممية وبمشاركة أطراف دولية وإقليمية، لم تشارك في مؤتمر أستانة، تسويفا ومماطلة إضافية تزيد في نزيف الدم السوري، إلا أنها أيضا تؤكد أن روسيا لم تنجح في أن تكون اللاعب الوحيد في المشهد السوري المضطرب، وأن عليها أن تحتفظ بالدستور الذي كتبته للسوريين وكانت تريد فرضه عليهم ضمن ملف وثائقها غير القابلة للتنفيذ.
كما أن العودة إلى جنيف ستكون كفيلة بأن تحدّ من الغطرسة الإيرانية، خاصة بعد أن حاولت إيران إظهار نفسها بوصفها الرابح الأكبر مما يحدث في سوريا، وتحديدا بعد ما حدث في حلب. وستمر سنوات طويلة قبل أن تمحى من الذاكرة صورة قائد فيلق القدس قاسم سليماني وهو يختال مزهوا في شوارع شرقي حلب بعد أن أخليت من سكانها.
ستجد طهران نفسها على طاولة واحدة في مواجهة إدارة أميركية مختلفة هذه المرة، فهي إدارة تعدّ العدة للانقضاض عليها، سياسيا واقتصاديا. وقد بدأت فعليا بفرض عقوبات اقتصادية ثقيلة عليها، بل وحتى عسكريا إن لزم الأمر، كما لوح بذلك الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع أننا نتوقع أن ذلك لن يحدث في المدى المنظور، وربما لن يحدث مستقبلا.
لكن الرئيس ترامب يدرك تماما أن الضغط على إيران في الموضوعين السوري والعراقي ومحاولة تضييق المساحة عليها في البلدين اللذين تحتلهما هو بمثابة هزيمة كبرى لها. ودون أن ننسى أن إيران التي سعت جاهدة لإقصاء الرياض عن مؤتمر أستانة، ستكون مضطرة لمواجهة حقيقة أن السعودية، والتي تعتبر الداعم الأكبر للهيئة العليا للمفاوضات السورية المعارضة، موجودة قبالتها على الطاولة، بحيث تكون كفتا الميزان متساويتين هذه المرة، فلا حصار يمكن أن يفرض على ممثلي المعارضة السورية، ولا شروط مسبقة، وإذا كان لا بد من حل سياسي لهذه “الأزمة” الممتدة منذ قرابة ست سنوات، فلا بد أن يكون حلا سياسيا حقيقيا وشاملا.
ودون أن يعني كل ما سبق أن مؤتمر جنيف المرتقب سيمثل بداية النهاية لكل هذه الآلام وهذه المعاناة السورية، إلا أنه بكل تأكيد قد يكون نقطة انطلاق لإعادة توزيع الأوراق بشكل متساو على الطاولة. فما يملكه نظام دمشق لا يزيد كثيرا عما تملكه المعارضة. ومهما حاولت موسكو وسواها نفخه وتصويره سيدا مطلقا ممسكا بزمام السلطة، فمفاتيح السلطة ما بين موسكو وطهران، والثورة، رغم كل ما حل بها، مازالت قادرة على الاستمرار وقلب الطاولة على الجميع.
العرب اللندنية