بداية أحب أن أنوه أن كلمة عانس تطلق على المرأة فقط، أما الرجل الذي لم يتزوج فيسمى عازبا! وهذا أحد أشكال التمييز اللغوي بين المرأة والرجل، سأتطرق إلى هذه المشكلة في سوريا التي تعاني من أهوال حرب تحصد أبناءها وخاصة شبانها منذ أكثر من خمس سنوات.
مئات الألاف من الشبان السوريين الذين استشهدوا أو هؤلاء الذين أصيبوا بإعاقات، تقابلهم مئات الألاف من الشابات العوانس، والعنوسة لا تعني فقط عدم الزواج بل حسب تعبير الكاتب المبدع جاك لندن في إحدى رواياته يقول: عدم ممارسة الإنسان حياته العاطفية والجنسية يجعله ينحدر إلى مستوى الحيوان. ورغم الأذى النفسي الذي نشعر به في هذه العبارة لكنها صحيحة تماما، لأن الحياة ذكر وأنثى، رجل وامرأة، ولا تكتمل إنسانية الإنسان إلا حين يعيش كما يفترض به أن يعيش وأن يمارس حياته الاجتماعية والعاطفية والجنسية.
حين كنت طالبة في كلية الطب البشري استوقفتني عبارة رائعة هي: جوع الجلد، وهي عبارة طبية وتعني أن الجلد أو جسد الإنسان بحاجة إلى اللمس، اللمس الذي ينقل الحب والحنان والرغبة، ويكفي تأمل طفل عمره شهر أو شهران يبكي كيف يسكت ويستكين حين نداعب خده، هذا هو الأمان الذي يعطينا إيّاه اللمس. وقد خلق الله الكائنات الحية وفق فيزيولوجية معينة، ففترات النزو عند الغزال مثلا معروفة بما يسمّى مسك الغزال وهي المادة واخزة الرائحة التي يطرحها الغزال لجذب أنثاه، وكذلك الإنسان فهناك توق أبدي وغريزي لاجتماع الرجل بالمرأة، وللأسف مجتمعاتنا متزمتة في جوانب كثيرة خاصة من ناحية علاقة المرأة بالرجل.
فالحلال والحرام والعيب والرذيلة والخطيئة.. تكبل جيل الشباب الذي يضطر للانحراف وارتكاب سلوك لا أخلاقيّ بسبب الكبت الشديد وعدم وجود أهل ومسؤولين اجتماعيين في المدرسة أو الجامعة يستمعون إليهم، بل يكاد يكون دور الأهل مثل دور الشرطي فلا يستعملون إلا لغة الأمر والنهي مع أولادهم أو لغة التهديد والوعيد، والمنطق يقول إن كلّ طاقة مختزنة إن لم تصرف بشكل صحي وطبيعي ستنحرف.
والشباب في العشرينات من عمرهم عليهم أن يعيشوا شكلا من العلاقات العاطفية الصحية المراقبة والمباركة من قبل الكبار، وأن يشعروا أنهم لا يمارسون الفحشاء والزنا، ولا يمكنني أن أنسى الألم والخزي الذي أحسسته حين قام أحد الفضوليين في جامعة اللاذقية بتصوير علاقات جنسية بين شبان وفتيات على سطح كليّة الهندسة، ونشر الفيلم على الفيسبوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي وكانت النتيجة أن عوقب مرتكبو الإثم -هؤلاء الضحايا المنبوذون والذين مارسوا الحب في العراء ككلاب وقطط الشوارع- لأن لا أحد يتفهمهم، عوقبوا بأن طردوا سنه كاملة من الجامعة، إضافة للعار الأبدي الذي لحق بالفتيات.
وكالعادة فنحن نكتفي عادة بإطلاق الأحكام الجاهزة ولا نبحث عن الدوافع والأسباب، لو أن هؤلاء الشبان والفتيات وجدوا من يهتمّ بهم وينورّهم ويساعدهم على الارتباط الشرعي مثل “بنوك الزواج في دول الخليج” لمّا انحرفوا، لكن التربية في عالمنا العربي تقتصر على الإدانة، فالناس يحبون أن يدين بعضهم بعضا، ولا أحد يتساءل: ما الذي يدفع الآخر ليقوم بهذا السلوك؟
ومشكلة العنوسة الآن في سوريا أصبحت تهدد توازن المجتمع، فالشباب إما ماتوا أو نزحوا أو أصيبوا بإعاقات ومن كان محظوظا ولا ينتمي إلى أحد هذه الفئات لا يملك مالا ليشتري خبزا فكيف ليتزوج!
وهكذا فنحن أمام حالة اجتماعية خطيرة جدا، حيث يشكل الجيل الشاب في العشرينات أكثر من 60 بالمئة من تعداد سكان سوريا.
وكم شعرت بالذهول حين كنت في زيارة إلى لبنان ووجدت مئات الفتيات السوريات ممن لا تتجاوز أعمارهن الـ14 أو أكثر ببضعة سنوات في منطقة المعاملتين وقد جررن من قبل الشياطين وتجار الدعارة إلى الدعارة، لأن المسكينات يعانين جوع المعدة وجوع الجلد في آن واحد. بل إننا صرنا نسمع تعابير غريبة عن أنواع الزواج، وكلها بدع لتبرير الدعارة، وللأسف غالبا ما يبارك الأهل زواج قاصر من عجوز يدفع حفنة مال ليلهو بفتاة قاصر سيورّثها بالتأكيد عقدا نفسية مدى الحياة، إن لم يدفعها للانتحار، وقد سمعت عن عدة فتيات انتحرن بعد أن تم تزويجهن رغما عنهنّ بعجائز.
مشكلة العنوسة في سوريا إذن ليست مجرد عدم تناسب بين عدد الفتيات والشبان، بل هي تهديد لبنية المجتمع وخلق جيل كئيب مدفوع رغما عنه للانحراف ولشفير هاوية العهر. جيل تعيس وبائس، لأن كل القوة في السعادة وكل الهزيمة والضعف في الكآبة، وجيل الشباب في سوريا كئيب لأنه عاجز أن يعيش كما يفترض به أن يعيش.
لكن للأسف لا أحد يبالي بهذه الظاهرة المُتفاقمة فالكل يحكي بالسلاح وبالمفاوضات والاجتماعات، فليتهم يدعون عوانس سوريا لهذه الاجتماعات ليروا كيف دمّروا، ليس بلدا فقط، بل بشرا وفتيات بعمر البراعم ألقي بهن في غرف مظلمة مع وحوش بشرية. وكما ذكر في الكتب المقدسة فإن قتل الروح أفظع من قتل الجسد. والعنوسة هي قتل للروح.