قد يُعتبر ما بناه العالم السني على مدار تاريخه في ما يخص مدوناته الفقهية، من أضخم ما أنتجته مكتبات عالم الأديان والطوائف. لكن، هل نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّه، على رغم هذا التشكيل الضخم (الذي يُعاد إنتاجه ألف مرة اليوم، شرحه وشرح على شروحه…)، فإنّ قادته فشلوا فشلاً كبيراً في الإجابة عن “سؤال المؤسسة” أو قل “سؤال الدولة” (طبعاً بالمعنى الحداثي الصرف).
فسؤال العنف والقهر، قهر الخصم في الاستحواذ على الدولة، لهو سؤالٌ، على رغم قدمه التراثي، ما زال يكتسي حضوراً قوياً في العالم الأصولي، السني والشيعي. والحال أنّ التأسيس السني، في بارادايمه الثقافي والتاريخي، تأسيس قائم على السلطة، لكن بـ “الغلبة والقهر”، أو على وجوب بيعة “أهل الشوكة” أو ذوي القوة والسيف. أما التأسيس الشيعي فقائم أيضاً، تاريخياً جداً، على معاداة الدولة من خارج أسوارها، ودائماً على معارضة المركز أو السلطة المركزية.
لقد سار التاريخ الإسلامي بالفعل وفق نموذجين: تشكيلات قهرية مركزية، وتشكيلات “أقلوية” “طرفية” معارضة لهذا القهر. “اللادولة” هو العنوان الرئيس لمثل هذين البارادايمين الإسلاميين.
الفشل في بناء الدولة لا ينفي بالطبع حقيقة أنّ المدونات الفقهية السنية مهدت الطريق بالفعل إلى قيام “سنية سياسية” حديثة. بيد أنّ هذه “السنية” لأنها مفككةٌ، تفكّك العالم السني نفسه عن ذاته، ولأنها تصر، على أيدي أصولييها، على العمل خارج أسوار الدولة فإنه من الصعب، والحال هذا، إنتاج “مؤسسة”، سوى ما نجده اليوم في تحول هذه السنية السياسية إلى سنيّات طائفية مسيسة، أشدها اليوم في سورية والعراق. مثل هذه السنيات الطائفية المسيّسة هي ما نجده اليوم وهي تقف كبديل قوي عن مشروع الدولة.
مماهاة السنّة بالدولة أو تعريف الدولة بالسنة أحد أوجه الانحطاط الخلفي في الفهم الأصولي السوري للدولة، سواء أتى هذا الانحطاط من الإخوان السوريين أو من لفّ لفّهم خارج الدائرة الأصولية ممن يصر على حمل “اسم” ماركس، على رغم أصوليته السنية. وعلى أية حال، إذا كان من الصعب على أصوليي السنّة من السوريين النظر إلى ذواتهم الهوياتية من غير استخدام نظارات الدولة، فهذا لن يصنع منهم أبناء دولة، طالما أنّ هذا المفهوم لم يتمكن في العالم السنّي وفي التاريخ الحداثي القريب من التماهي مع بناء المؤسسة. الحروب في البلاد السورية اليوم تعاود تأكيد، وإنْ في شكل مختلف، أنّ صراع الأصوليين للاستحواذ على الدولة استمرار لمعركة كبرى، معركة صراع الأصوليين من أبناء السلطنة العثمانية وخارجها ضد الغرب حينما تسبّب الأخير بـ “جرح عميق” في العالم السني، وذلك بسلبه السلطة منه.
المسألة لم تكن عند أصوليي السنة (الذين أخذوا بالتشكل غداة شيوع آثار “الرجل المريض” وبعد موته نهائياً في 1924)، أنّ الغرب سرق الدولة (وبطبيعة الحال، الغرب أهداهم الدولة بمعنى المؤسسة)، بل إنّ السلطة سُلبت إلى الأبد من أيدي السنة.
مثل هذا “الجرح السني” يلقي بعضاً من الضوء على اختلاط المفاهيم في الشارع الأصولي السني، وكثير من هذا الاختلاط متعمّد، بين مفاهيم الأمة والدولة والسلطة، من جهة، ومن جهة أخرى، على أنّ الصراع الدموي الذي تقوده خلايا النحل من الأصوليين هو من أجل السلطة (طالما أنهم يماهون مخيالياً بين الأمة والإسلام): صراع لا من أجل الدولة، بل على الدولة. وهذا يمثل أحد الأسباب الكبرى في الفشل الذريع في العالم السني المشرقي في التأسيس لدولة، أو لنقل لمؤسسة.
حال “أهل الشوكة” يقارب، في نموذجه القهروي، ما قام به علويو سورية بالغلبة وقهر السنة (هل نحن أمام “بندول تاريخي إسلامي”، إذا استعرنا هذا المصطلح من إرنست غلنر؟). نقول هذا الكلام على رغم أنّ التأسيس العلوي يفتقر إلى علوية سياسية، أو قل “كهنوت علوي مؤسساتي”، بالمعنى الشيعي والسني. وفي الواقع، إذا كان هناك جزء من العلويين، ممن لم يعد يستطيع النظر إلى ذاته أيضاً سوى ضمن أفق نظارات الدولة (سورياً تحديداً)، فهذا لم ولن يجعل من نفسه ابن ميراث دولة، أو أنّ ثقافته السياسية قائمة على فكر الدولة أو المؤسسة، بحيث لم يعد يستطيع العيش من غير قيام الدولة. الحال على عكس ذلك للأسف. ما فعله حافظ الأسد أنه لم يخرج العلويين من الطائفة إلى المؤسسة أو الدولة، بل من الطائفة مباشرة إلى السلطة، لم يخرجهم من الريف إلى المدينة، بل مباشرة إلى السيطرة، وبالسلطة والشوكة، على فضاء المدينة. وهذا بالطبع، لن يصنع من هذا الجزء السوري صنّاع دولة، أو “أبناء مؤسسة”.
وهذا يعود الى أسباب تاريخية كبرى، ليس أقلها أنّ الدولة لم تساو سوى السلطة، من جهة، ومن جهة ثانية، هناك غياب الدولة لا عن هذا الجزء العلوي فحسب، بل عن معظم الطوائف الأخرى، بما فيها الأجزاء السنية (التي يصر اليوم طائفيون هوياتيون كثر على إخراجها من ربقة اصطلاح الطائفة. لماذا؟ لأنها الأمة!).
المسألة إذاً هي، من الناحية التاريخية والثقافية، الافتقار إلى خبرة الدولة وتجربتها، بفكرتها حتى، أي الافتقار إلى الرابط السياسي المؤسساتي بين الأمة والدولة. وهذا ما تبرهن بعضه الحروب السورية الأخيرة بين السنّة والعلويين. كل من الطرفين تتملكه قوى خارقة في إظهار شهوة الموت والدم: أصوليون علويون (وهم يُقادون بحفنة من أصوليي طهران) يظهرون على خشبة مسرح الأصوليات في وجه إجرامي لم يعهده تاريخ الإسلام العلوي، من جهة، وأصوليون سنة يظهرون في وجه إرهابي جديد، وجه داعشي ونُصروي معولم، يتعشقون ويعشقون إكمال مسيرة المجازر بحق الأقليات. كل من الطرفين تتملكه كل القوى لإبادة نقيضه الطائفي (لكن لنؤكد أنّ هذا النقيض الهوياتي ما هو إلا “وهم أنوي”). كل من الطرفين تتملكه كل القوى في تدمير كل ما له صلة ببناء المؤسسة والدولة، والبقاء في حظيرة الدفاع عن أسوار الطائفة.
أما أنْ نذهب بهذا لنؤكد أنّ المشرق يلفظ أنفاسه الأخيرة (كما يرغب بعض الباحثين الغربيين)، فهذا ما لا نستطيع السير معه، طالما أنّ إمكانات التاريخ تبقى مفتوحة ومتعددة.
الحياة