القدس العربي – توفيق رباحي
السؤال عن مسؤولية الصين في انتشار فيروس كوفيد ـ 19، ثم طريقة تعاملها معه بعد الانتشار، أكثر من مشروع. والمضايقات والضغوط التي تتعرض لها الحكومة الصينية من دول غربية بقيادة الولايات المتحدة، مفهومة بالنظر إلى مسؤولية السلطات الصينية في التعامل مع الفيروس، سلبا أو إيجابًا، في الأيام الأولى لبداية انتشاره. لكن هذا لا يجب أن يُلغي من التحليل أن في هذه الضغوط الكثير من محاولات الحكومات الغربية التهرب من فشلها وإخفاقاتها في هذا الامتحان العسير.
بعد نحو شهرين من الصمود، بدأت السلطات الصينية تواجه صعوبة في التهرب من مسؤوليتها في انتشار الفيروس. والأخطر من المسؤولية عن الانتشار، التكتم الذي يُعتقد أن بكين مارسته في البداية، والذي، يوما بعد يوم، يبدو أكثر ترجيحا في دوائر الحكم والتأثير في الغرب.
بعد صمود، تحوَّل إلى افتتان عالمي عندما احتفلت السلطات الصينية في ووهان مدينة محررة من كوفيد ـ 19، بدأت الحكومة الصينية وأذرعها السياسية والإعلامية تعجز عن إقناع العالم بأن طريقة إدارتها لانتشار الفيروس في الأيام الأولى، الحاسمة، كانت حكيمة ونزيهة وموفقة. وبدأت تضيق مساحة المناورة حول تفاصيل تلك الأيام، التي اتضح الآن أنها كانت مصيرية للبشرية، وما دار خلالها في الأوساط الحكومية والعلمية بأعلى هرم منظومة الحكم في الصين.
الأيام المقبلة ستكون صعبة على السلطات الصينية. والأصعب ستكون الأسئلة التي على هذه السلطات الإجابة عليها في ما يتعلق بالفيروس. وسيزداد الأمر صعوبة على سلطات بكين، لكون حكومات أوروبية مؤثرة، مثل الفرنسية والبريطانية والألمانية والأسترالية، اتّحدَت مع البيت الأبيض، في تحميل الصين مسؤولية تفشي الوباء واتهامها بإخفاء أمور كان من شأن الكشف عنها في حينها أن ينقذ الكثير من الأرواح عبر العالم.
رغم التوتر العميق بين القادة الأوروبيين والرئيس ترامب، حتى قبل جائحة كورونا، نجحت الشكوك المتنامية تجاه الصين في تذليل الخلافات الثنائية والجماعية بين الأطراف الغربية، وتوجيه السهام نحو هدف واحد: بكين
رغم التوتر العميق بين القادة الأوروبيين والرئيس ترامب، حتى قبل جائحة كورونا، نجحت الشكوك المتنامية تجاه الصين في تذليل الخلافات الثنائية والجماعية بين الأطراف الغربية، وتوجيه السهام نحو هدف واحد: بكين.
سيضيق الخناق حول الصين في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة بغض النظر عن النتيجة النهائية للاتهامات. الأمر يتعلق أيضا بتمسك الغرب بإيجاد جهة تتحمل المسؤولية وتكون بمثابة كبش فداء يخفف العتب على الحكومات الغربية ويريحها قليلا من الاتهامات بالإخفاق في حماية شعوبها، ومن المسؤولية الأخلاقية والحرج المترتبين عن الكارثة المتعددة الأوجه التي تعيشها أوروبا. وأكثر جهة تلائمها التهمة حاليا هي الصين.
ستدفع الصين في هذه الأزمة ثمن القبضة الحديدية التي مارسها نظامها الشمولي طيلة عقود على الحريات السياسية والإعلامية. وسيكون الثمن، بدايةً، عجز الصين عن الدفاع عن نفسها بالطريقة المناسبة والفعّالة، لأنها تفتقد للأدوات الدعائية القوية والمؤثرة. طيلة عقود، اشتغلت الدعاية الصينية داخليا واستثمرت في استهداف الشعب الصيني. في المقابل، استهدف الغرب، بأذرعه الكثيرة والطويلة، بحلوها ومُرِّها، العالم كله. ناهيك عن دخول الصين متأخرة إلى مسرح النفوذ العالمي.
بينما اتحدت أمريكا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا من دون جهد يُذكر في اتهام الصين، لم تجد الأخيرة صوتا واحدًا يدعمها ويرد عنها الاتهامات. وعلينا أن نتوقع أن الوحدة الغربية الظاهرة في الخطابات السياسية والإعلامية، يقابلها حتما جهد كبير في عالم الاستخبارات المظلم يحيك تفاصيل المواجهة المقبلة ويضع خططها ويقترح أدواتها. ستكون مواجهة بين غرب انهزم وصين لم تنتصر!
غير أن الصورة أكبر، والأزمة لها وجه آخر: سيكون من الصعب تصديق أن الهدف الأسمى للحكومات الغربية من هذا التصعيد ضد الصين هو فقط البحث عن الحقيقة وتحديد المسؤوليات. الكارثة التي حلت بالدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا وأوروبا، جراء فيروس كوفيد19 حشرتها في الزاوية وأوقعتها في وضع لا تُحسَد عليه إطلاقا. وضعٌ «عالمثالثي» كارثي يتطلب الدفاع عن النفس وتخفيف الخناق محليا، ثم في البيت الأوروبي الكبير.
ليس سهلا على الحكومة الإيطالية أن تسلّم بانهيار منظومتها الصحية. وليس سهلا على الرئيس ماكرون أن يعترف بأن فرنسا أخفقت في حماية شعبها من الوباء. وليس سهلا أن يسجل التاريخ على ترامب أن نيويورك لم تعد تجد مقابر لموتاها بسبب كورونا في عهده بسبب ارتباكه واستخفافه بالأزمة. وسيكون صعبا على حكام بريطانيا اليوم أن تقرأ الأجيال المقبلة أنهم وقفوا عاجزين أمام كورونا إلا من عدِّ الموتى وتوجيه نداءات بحماية النظام الصحي الوطني.
كل هذا يتطلب عدوا تُساق له الاتهامات ويُحمَّل المسؤولية، بغض النظر عن صدق تلك الاتهامات من عدمه. وليس هناك عدو يستحق أن تُوجَّه نحوه القذائف أفضل من الصين، خصوصا وأن الأخيرة ساعدت خصومها التقليديين بأن وفرت لهم الذخيرة الكافية والمسبّبات.