تلعبُ الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دورًا كبيرًا في تشكيل مجتمعٍ ما؛ صفاته وأخلاقه، بحيث يكون المجتمع مرآة لهذه الظروف، وسببًا لها، وهذا عكسُ ما يروّجه وعاظ السلاطين في كل زمان ومكان من “نخب” و “مثقفين” و “شيوخ” بأنّ أخلاق الناس هي سبب ما تؤول إليه الحال من ظروف، فتراهم يصرخون في كلّ حين “بدّلوا أخلاقكم؛ تتغيّر ظروفكم”، ولو صدقوا مع الواقع لقالوا عكس ذلك، فإنّ تغيير ظروف الناس هو ما يغيّر طبائعهم وعاداتهم، فالفقر يولّد خصاله كما يولّد الاستبداد طباعه. وهكذا كان حريٌّ بنا أن ندرس “أخلاق الطغاة”، ولا أقصد بذلك أخلاقهم هم أنفسهم، من حيث سلوكهم الخاص والعام، بل الأخلاق التي يورثوها للمجتمعات التي يحكموها، لا سيما عندما يدوم الحكم لعقودٍ طويلة، قد تبلغ نصف قرنٍ من الزمان.
وإن من أسوأ ما ربّاه المستبدون في شعوبنا هو ثقافة النفاق، فتَحتَ بطش القوّة وخوف الاختفاء القسريّ لم يبقَ للسوريّين سوى أن يظهروا مودتهم ومهادنتهم للسلطة إذا ما اقتضت الحاجة والمناسبة، وإن أخفوا في قلوبهم غير ذلك، ففي بلدٍ لا يعترف بتعدّد الآراء والألوان؛ إما أن تقول ما نقول فتكون معنا، وتحظى بسلامة رقبتك! وإما أن تبدي غير الذي يُقال، فتكون ضدنا؛ ويقطع رزقك، وربما عنقك.
ولأنّ كل شيء ينمو ليكبر، فإن ما كان نفاقًا للحكّام تجنبَ بطشهم، بات ثقافةً سائدة في العمل والمجتمع مع طول الأمد وبُعد الزمن، فلم يعد يُسمع في الدوائر والمصالح سوى الموافقات، ولم يعد يتردد في النقابات سوى التأييد والمباركة على القرارات الرشيدة والخطط الممتازة، الأمر الذي نمّى حالة حساسيةٍ مفرطة تجاه النقد، قد تواجه بالعنف اللفظي أو التسفيه أو التجاهل المُطلق، ويُتهم صاحبها “بإيهان نفسيّة الأمة” وإضعاف شعورها، وهي تهمة لا تحتاج إلى دليل بينما ترمي صاحبها ثلاث سنوات في السجن لقاء سؤال جريء.
يستحضرني هنا حلقة من المسلسل السوري “ضيعة ضايعة” حملت عنوان “التملّق”، وهي تشخّص الحالة التي وصل إليها الشعب أخيرًا عقب خمسين عامًا من تسلّط آل الأسد على السلطة في سوريا، حيث ترد أوامر القيادة بضرورة “عدم التملّق” وأهمية إبداء الرأيّ، وهو الأمرّ الذي يُحيّر كافة أهالي الضيعة، حتى يستشيروا مثقفهم الوحيد حول مالذي يعنيه “التملّق” وكيف يمكن لأحدهم ألّا يتملق. وهكذا تمضي الأحداث وهي تصوّر مجتمعًا لم يعد يعرف كيف يبدي رأيه، بل لم يعد يملك رأيًا من الأساس كي يعبّر عنه، وتُختم الحلقة ببهجة أهالي الضيعة وفرحهم الشديد عندما تأتي أوامر القيادة من جديد بالعودة إلى ثقافة التملّق ومعاقبة أصحاب الرأيّ والمخالفة.
في كتابهم الصادر عام 2009 بعنوان “أمة الشركات الناشئة، معجزة إسرائيل الاقتصادية”، يتحدث كل من الصحفي دان سنيور وساول سينجر؛ عن أسباب نهضة ونجاح المجتمع والدولة في إسرائيل على المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ويلاحظ القارئ أن جزءًا كبيرًا من الكتاب يدور حول مفهوم يدعى الـ “خوتزبه”، والذي استعارته العبرية الحديثة من لغة ألمانية منقرضة، ويعني خليطًا من “الوقاحة، الجرأة، تحديّ المسلمات، ومناقشة كلّ شيء”، يقول الكاتب: لا يوجد في أي لغة أخرى كلمة يمكن أن تُنصف هذا المفهوم، إلا أننا يمكن أن نراه عمليًا عندما يتحدث الطلاب مع أساتذتهم في الطريق إلى الجامعة، وعندما يتحدى الموظفون رؤسائهم في العمل، ويجادل المجندون ضباطهم، في أي مكان، سواء البيت أو المدرسة أو الجيش.
وقد شملت توصيات اللجنة المشكلّة عقب فشل الجيش الإسرائيلي في تدمير حزب الله عام 2006 أنه “يجب أن يتجادل كبار الضباط مع رئيس الأركان عندما يشعرون أنه مخطئ، ويجب أن يتم هذا الأمر بشكل حازم وعلى أساس الدقة والاحترافية كما يرونها هم”. يعلّق المؤلف قائلًا؛ يجب أن تكون المنظمات الكبيرة دائمة الحذر من الوقوع فريسة التملق والتفكير الجماعي، وإلا فإن الجهاز بأكمله قد يهوي في أخطاء رهيبة.
هذه إسرائيل توصي المجندين بعدم الانصياع المطلق لضباطهم عندما يشعرون بخطأ ما، رغم أن المجال العسكريّ غالبًا ما يتسمّ بالطاعة والانقياد، فمالذي نقوله في مجتمعاتنا نحن؛ ليس عن الجيوش بل حتى عن الأحزاب السياسيّة.
لقد أفرزت الثورة بما شملته من دفقٍ تمرديّ على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي حالةً من الصراحة والجرأة على النقد، وتعبيرًا ينطوي على تعدّد خلّاق للآراء وهو أمرٌ ينبغي الاحتفاء به، والاهتمام بالمحافظة عليه وتنميته، علّه يؤسس لمجتمع جديد من رحم الثورة.
المصدر: اتحاد الديمقراطيين السوريين