أشارت تقارير نشرتها منظمة الصحة العالمية في حزيران/ يونيو 2019 أن واحداً من كل 25 شخصاً في العالم يصاب بعدوى جنسية واحدة على الأقل خلال حياته. إن هذه الإحصائية المرتفعة نسبياً لفتت أنظار العالم، ومجاهره، نحو ذلك الخطر “الخفي” الذي يتهدد صحة الأفراد النشطين جنسياً بنسب عالية ومتساوية تقريباً. وفي حين ترتفع المسؤولية الشخصية أمام حالات كهذه، إلا أن الدور الأكبر في نشر التوعية الجنسية وإيجاد بروتوكولات علاجية ووقائية، يقع بالدرجة الأولى على عاتق الدولة ومؤسساتها الصحية. فكيف تتعامل المؤسسات المعنية ضمن قطاع الصحة السوري مع هذه المعضلة العالمية وسط غياب التوجيه الضروري من ناحية، وتراكم آثار الحرب الطويلة وما خلفته من عقوبات اقتصادية من ناحية ثانية؟
على رغم غياب الإحصائيات السورية التي تشير بدقة وشفافية إلى عدد المصابين بعدوى جنسية ما، تعج مستشفيات دمشق وعياداتها يومياً بأعداد كبيرة من المراجعين الذين يعانون من أعراض الإصابة بأحد الأمراض الجنسية المتناقلة، من دون دراية منهم في معظم الحالات. الأمر لا يحتاج إلى كثير من التفسير حال معرفتنا بضآلة الاهتمام الحكومي بموضوع الصحة الجنسية. فحملات التوعية المجتمعية، إن أقيمت، تحصل على نطاق صغير جداً، ولا يتم التسويق لها بشكل يكفل وصولها إلى شريحة كبيرة ومتنوعة من الناس، ما يجعل أمر حدوثها “فخرياً”، ولا يتجاوز كونه “واجباً” تزيحه الدولة عن أكتافها بأقل الأثمان الممكنة، أو تلقي به على كاهل منظمات المجتمع المدني التي أخذت هذا الدور، محاولة سد الثغرات الكثيرة بإمكانات متواضعة نسبياً، وبنطاق عمل محدود من قبل الدولة أساساً، وبإقبال مجتمعي ضعيف.
أما اللقاح المتوافر عالمياً لبعض هذه الأمراض، كاللقاح ضد الفايروس الحليمي البشري HPV، وهو الأكثر انتشاراً في مستشفيات دمشق وعياداتها، والمسبب الأول لسرطان عنق الرحم عند الإناث، فاختفى نهائياً منذ أكثر من 9 سنوات، بعدما كان يُعطى في بعض العيادات الخاصة التي تحصل عليه من لبنان، بناء على طلب المريض الذي نادراً ما يعلم بأمر اللقاح أصلاً، وإن علم مصادفة به، فيكون قد تجاوز السن الموصى بها لأخذ اللقاح. إذ تقول سارة، شابة سورية في الخامسة والعشرين، تعيش اليوم في هولندا، إنها لم تعلم بوجود لقاح ضد فيروس HPV، إلا بعد فوات الأوان. “رفض المستشفى في هولندا منحي اللقاح”، وتشرح، “قالوا لي إنني نشطة جنسياً منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وهذا يعني أن احتمال تعرضي للفايروس الشائع تبلغ 80 في المئة. لكننا نستطيع تأمين العناية المناسبة لك في حال ظهور أي من الأعراض”. وهو ما لا يستطيع المصاب بفايروس جنسي الحصول عليه في أي مستشفى حكومي في دمشق اليوم، فيراجع الشخص المصاب مثلاً بالثآليل الجنسية المستشفى الحكومي، ليتم تحويله إلى قسم الأمراض الجلدية الذي لا يُعنى إلا بجزء ضئيل من العلاج وفق المعايير العالمية. ويتم التشخيص بناء على القصة المرضية وحدها، من دون تحاليل نوعية تدعم التشخيص. أما العلاج فهو ذاته: الكي بحمض الآزوت، وهو كل ما يتلقاه المصاب من عناية لجميع أنواع الثآليل الجنسية التي تختلف طرائق تدبيرها من فايروس إلى آخر. ناهيك بغياب المتابعة الدورية، فالمصاب بالعدوى الجنسية يتوقف عن زيارة المستشفى حال غياب الأعراض، من دون أن يعطى أي تعليمات بخصوص متابعة وضعه الصحي وتغيير عادات حياته بما يتناسب مع حالته الصحية، ولا يتم منحه الإرشادات اللازمة للحد من انتشار العدوى.
يجابه المصاب بأي عدوى جنسية، سواء في العيادات الحكومية أو الخاصة، بأصابع اتهام وترهيب ومبالغة في وصف الخطر الذي قد يؤثر في حياته الجنسية والإنجابية.
أما مرضى العيادات الخاصة، فهم غالباً من الأشخاص القلقين من وصمة العار الملحقة بهذه الأمراض، وهم يبحثون عن تجربة أكثر أماناً وحرفية مما تقدمه المستشفيات الحكومية، فيراجعون عيادات طبية خاصة في أماكن مغايرة لأماكن سكنهم، ويعمدون إلى تقديم معلومات شخصية مزيفة، وهو ما لا يستطيعون فعله في عيادات المستشفيات الحكومية، وغالباً ما تكون أعراضهم متفاقمة، نتيجة انتظارهم زوال هذه الأعراض من تلقاء نفسها وتجنب مجابهة أحد بها. وهنا تختلف قصة المصابين بعدوى جنسية ما بين طبيب وآخر، فمنهم من يتعرض للتوبيخ والمعاملة السيئة، وبحالات نادرة التحرش، ومنهم من يتلقى العلاج والمشورة المناسبين، علماً أن هذه العيادات لا تقدم طيفاً أوسع من العلاجات عن تلك التي تقدمها المشافي العامة، فالصناعات الدوائية المحلية قاصرة، والعقوبات الاقتصادية تمنع دخول الأدوية النوعية الجيدة، الأمر الذي يدفع الأطباء إلى وصف الأدوية المتاحة في السوق، حتى إن بعض الصيدليات بدأت بتصنيع بعض المواد الموضعية ضمن مخابر منزلية، دون المعايير، وهي مواد تحمل خطر تطبيقها دون إشراف طبي.
وفي حين قد يتلقى المصاب بعدوى جنسية علاجاً فعالاً، كلّ واحد بحسب حالته الصحية، إلا أن ما يغيب عنه تماماً هو الدعم النفسي الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من العلاج ولتقدم بعض الحالات المرضية، بل على العكس، يجابه المصاب بأي عدوى جنسية، سواء في العيادات الحكومية أو الخاصة، بأصابع اتهام وترهيب ومبالغة في وصف الخطر الذي قد يؤثر في حياته الجنسية والإنجابية.
اليوم، وفي ظل التخلي المتدرج لجهاز الدولة السورية عن مسؤولياته الأساسية وترك مكانه فارغاً لمنظمات العمل المدني ومؤسسات القطاع الخاص العاجزة عن ملئه، تدفن الدولة خلسة قطاعاً أساسياً لمواطنيها في مراسم شح الخبز والمحروقات وأساسيات العيش.
نقلا عن وكالة درج