الشعوبية: حركةٌ اجتماعيةٌ قوميةٌ ثقافية، ظهرت بوادرها في العصر الأموي، واشتدّ عودها وازدهرت في العصر العباسي.
شاهد… قصة أملاك ليلى التي عرفت بموت زوجها المعتقل من خلال صورة
وهي حركةٌ مناهضةٌ للعرب، تُبغضهم وترى أنّه لا فضل للعرب على غيرهم من العجم، وقد تصل إلى حد تفضيل العجم على العرب والانتقاص منهم.
اتّخذت الحركة الشعوبية من الآداب وسيلة لزرع بذور العنصرية والكراهية في نفوس أبناء أمتها تجاه العرب والإسلام خاصّة.
يعدّ الشعرُ أحدَ أهمِّ فروع الآداب المستخدمة في هذا الإطار؛ لأنه أكثرُ الآداب التصاقاً في عقول القرّاء والمستمعين والأسهل حفظاً في الذاكرة؛ ولذلك لجأ السلطان محمود الغزنوي الذي هو أحد أمراء الحركة الشعوبية إلى الشعر لتأجيج مشاعر العداء الفارسي ضد الإسلام والعرب، فكلّف الشاعر الشعوبي الفردوسي بكتابة قصائد يمجّد فيها الفرس ويشتم العرب، وأجزل له العطاء وزنَ أشعاره ذهبا.
وبناءً على ذلك وضع الفردوسي ملحمته الشعرية “الشاهنامه”؛ أي: ملك الكتب، ومعروفة ب” “شاهنامة الفردوسي” وجلُّها في شتم العرب وتحقيرهم وتمجيد الفرس وملوكهم، وما زال الفرس يحفّظونها لأبنائهم لإيغال صدورهم على العرب إلى يومنا هذا.
مَنْ هو بشار بن برد؟ وكيف تجلّت الشّعوبية في شعره؟
بشار بن برد: (95- 167هـ):
فارسيّ الأصل، ولد في البصرة، وتردَّد على الأعراب في بادية البصرة، فشبَّ فصيح اللسان، صحيح البيان، وتوفي في بغداد، وأدرك الخلافتين: الأمويّة والعبّاسية، وهو أشهر شعراء الشعوبية.
كان بشار ضخما، طويلا، كريه المنظر، سيء الخلق، شعوبيا، متعصّبا للفرس، مزدريا للعرب، متهكّما على أساليبهم ومفاخراتهم.
يعدُّ إمام الشعراء المولّدين المُحدَثين، ومن أشهر شعراء العصر العباسي وأكثرهم تقدّما في الشعر، ومن أكثرهم تقرّبا للخلفاء، وكان شاعرا مطبوعا، لا يتكلّف الشّعر، وراجزا، وسجّاعاً خطيبا، ولكنّه كان خليعا، ماجنا، كثير الاستهتار بالدّين، بذيء الكلام في الهجاء، جريئا في غزل النساء.
قال فيه الجاحظ: “وليس في الأرض مُوَلَّدٌ قرويٌّ يُعَدُّ شعرهُ في المُحْدَث إلّا وبشّار أشعرُ منه”.
وُلِدَ بشار أعمى، وذكر ذلك في شعره وربط بين العمى والذكاء، فقال:
عميتُ جنيناً والذّكاء من العمى
فَجِئتُ عجيبَ الظّنِّ للعلم موئلا
وله شعرٌ وفيرٌ، جاء بما لم يقدر عليه كثيرٌ من البصراء، وأغلبها في المدح، والهجاء، والفخر، والغزل. وقد أغنته أذنه عن العين في العشق، وفي ذلك يقول:
يا قوم أذني لبعض الحيِّ عاشقةٌ
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بِمَنْ لا ترى تَهذي فقلتُ لهم
الأذنُ كالعينِ تُؤتي القلبَ ما كانا
هلْ مِنْ دواءٍ لِمشغوفٍ بِجاريةٍ
يلقى بِلُقيانها رَوْحاً ورَيْحانا
اتُّهم ابن برد بالزّندقة، وظهرت في أشعاره ثقافة الفرس، ومنها قوله:
الأرضُ مُظلمةٌ والنّار مشرقةٌ
والنّار معبودة مذْ كانت النّارُ
في إشارة منه إلى عبادة الفرس للنار.
وعلى الرّغم من اتّهامه بالزّندقة، إلّا أنّه يقول:
إنّ في البعثِ والحسابِ لَشُغلا
عن وقوفٍ برسمِ دارِ مُحيل
أمّا نزعته الشّعوبية فتظهر في أشعاره التي يفخر فيها بالعجم ورفاهيتهم، وتحضّرهم، وينتقص من العرب، ويهاجمهم. فضلا عن إشاعة المجون، وشرب الخمر، وكثير من المفاهيم التي تنافي العقيدة الإسلامية بغرض المساس بمرتكزات الأمة الإسلامية والقيم التي تؤمن بها، وسنكتفي هنا بالإشارة إلى الفخر بالعجم والتقليل من شأن العرب، فتراه يقول مفتخرا بأجداده العجم:
أنا ابنُ ملوكِ الأعجمين تعطّفتْ
عليَّ ولي في العامريين عِماد
وفي الوقت ذاته يهاجم العرب، مزريا بحياتهم الوعرة القاسية، ومآكلهم الفظّة، وملابسهم الغليظة، فيترفّع بنفسه عليهم، ويلحق نسبه بأبناء ملوك الفرس والعجم، فيقول:
تقول ابنتي إذْ فاخرَتْها أعرابية
مؤزَّرَةٌ بالوَبَرِ في شَوْذرة قِردْ
لها والدٌ راعٍ إذا راحَ عندها
بأشويةٍ مِنْ قلبِ ضبٍّ ومِنْ كبدْ
أبي نجلُ أملاكٍ وَزورُ خليفةٍ
يلينُ لهُ بابُ الهُمامِ إذا وَفَدْ
وأنتِ لقاةٌ بينَ خلفٍ وأكلُبٍ
متاعٌ لِمَنْ جازَ السّبيلَ ومَنْ قَصَدْ
وإنّكِ مِنْ قومٍ عليهم غَضاضَةٌ
ترى غَيْراً بالنّفسِ مِنْ عيشِها النّكدْ
لا يتوانى بشار عن وصف أهله الفرس بأنهم ملوك الأزمان، وفي ذلك يقول:
هلْ مِنْ رسولٍ مُخْبِرٌ
عنّي جميع العربِ
مَنْ كانَ حيّاً منهم
ومَنْ ثوى في التُرَبِ
جدِّي الّذي أسمو به
وكسرى وساسانَ أبي
وقيصرُ خالي إذا
عدَدْتُ يوماً نسبي
لمْ يسق أقطابَ سقى
يشْربُها في العُلَبِ
ولا حدا قطُّ أبي
خلفَ بعيرٍ جَرِبِ
وعلى الرّغم من شعوبيته، وتجرُّئِه على العرب، إلّا أنّه يفخر أحيانا بالولاء والانتماء إليهم، ومما قاله في العرب:
مِنْكُمْ نبيُّ الهُدى يقرو محاسِنُهُ
ساقي الحجيج ومنكم منهبُ الزّادِ
صلَتْ لكُمْ عجَمُ الآفاقِ قاطبةً
فوجٌ وَفودٌ وفوجٌ غيرُ وقّادِ
ممّا تقدّم تظهر النزعة الشعوبية واضحةً جليةً في أشعار بشار بن برد، وهو رأس الشعوبية في وقته، وقد أعلن لها الولاء والميول علانية، بعد أن تبرأ من مواليه العرب، وهو الذي كان يعتز بولائه لهم قبل أن تتملكه هذه النزعة.
ظلال عبود
المركز الصحفي السوري
بتصرّف عن:
ديوان بشار بن برد، تح: محمد الطاهر بن عاشور، الأغاني للأصفهاني، البيان والتبيين للجاحظ، ومعجم الشعراء للمرزباني، وأساس البلاغة للزمخشري