مسعود أحمد
يشكل الهبوط الحاد الذي شهدته أسعار النفط واقعا اقتصاديا جديدا لبلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد انخفضت أسعار النفط العالمية بأكثر من النصف عن الذروة المسجلة في الصيف الماضي، لتصل إلى مستويات غير مسبوقة منذ الفترة القصيرة التي تخللت عام 2009. وجاء الانخفاض الحاد في الأسعار وعدم اليقين بشأن مدى استمرارية الاتجاه الحالي نتيجة لاقتران الزيادة غير المتوقعة في إنتاج المصادر غير التقليدية مع زيادة ضعف الطلب العالمي وقرار منظمة «أوبك» الحفاظ على مستويات إنتاجها الحالية. وبالطبع، لا يوجد ما يؤكد أين ستستقر الأسعار في نهاية المطاف، مما يجعل من الصعب على صناع السياسات قياس النسبة المؤقتة في هذه الصدمة والنسبة التي ينبغي توقع استمرارها. غير أن الأمر الواضح هو أن انخفاض أسعار النفط يفرض تحديات اقتصادية على البلدان المصدرة للنفط في المنطقة، بينما تظل مزاياه محدودة بالنسبة للبلدان المستوردة للنفط.
وتواجه الآن بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المصدرة للنفط خسائر كبيرة في الصادرات وفي الإيرادات الحكومية. وتشير التقديرات الواردة في تقريرنا القادم عن مستجدات آفاق الاقتصاد الإقليمي، إلى أن خسائر تصدير النفط والغاز في بلدان مجلس التعاون الخليجي وحدها ستصل إلى 300 مليار دولار هذا العام. وستضطر كل البلدان المصدرة للنفط في المنطقة، باستثناء الكويت، إلى السحب من مدخراتها المتراكمة أو الاقتراض لتمويل العجز في ميزانياتها العامة لهذا العام.
ولحسن الحظ، تمتلك معظم الحكومات في البلدان المصدرة للنفط موارد كافية لتجنب حدوث انخفاض حاد في خطط الإنفاق التي وضعتها لهذا العام، ومن المرجح أنها ستفضل هذا الخيار، مما سيحد من التأثير المباشر على النمو وعلى مستويات معيشة السكان.
لكن الهوامش الوقائية التي توفرها الأصول الأجنبية آيلة للنفاد، ويمكن أن تنضب خلال بضع سنوات في كثير من البلدان المصدرة للنفط في المنطقة، إذا لم تتغير السياسات وظلت أسعار النفط على انخفاضها. وعلى ذلك، فالوقت مناسب لإعادة تقييم خطط الإنفاق متوسطة الأجل في هذه البلدان، واستهداف تعديل تدريجي ولكنه حاسم للتكيف مع انخفاض أسعار النفط. وقد يكون التخفيض المرحلي للإنفاق الرأسمالي أمرا لا مفر منه بالنظر إلى حجم هذه المهمة، لكن الأولوية بشكل عام ينبغي أن توجه لكبح الإنفاق الجاري وتخفيض دعم الطاقة المعمم الذي لا يزال كبيرا في الكثير من البلدان حتى مع سعر النفط المنخفض الجديد. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون انخفاض أسعار النفط بمثابة حافز لوضع خطط جديدة أو إحياء خطط موضوعة منذ وقت طويل لزيادة تحصيل الإيرادات غير النفطية.
ومع القيود الإضافية التي تشير إليها آفاق المالية العامة في السنوات القليلة القادمة، قد لا يصبح كافيا في الفترة القادمة الاعتماد على نماذج النمو المطبقة في العقد الماضي والتي ترتكز على زيادة الإنفاق الحكومي. إنما سيكون التحدي الذي يواجه هذه البلدان هو تمكين القطاع الخاص من أن يصبح قاطرة للنمو تتسم بدرجة أكبر من الاكتفاء الذاتي. وسيتطلب هذا إعادة توجيه الحوافز نحو إنتاج السلع والخدمات الموجهة للتصدير، عن طريق إزالة الحواجز التي تعترض المنافسة وتكثيف الجهود لتيسير التجارة وتعزيز السياسات المعنية بتشجيع التصدير، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. وبالمثل، سيكون من المهم في كثير من البلدان تمكين المواطنين من المشاركة بشكل أكبر في سوق العمل الخاص لتجنب ما تتعرض له الحكومات من ضغوط للاضطلاع بدور صاحب العمل الذي يمثل الملاذ الأول والأخير، وهو دور ستجد صعوبة أكبر في القيام به في بيئة يسودها انخفاض أسعار النفط.
وعلى عكس البلدان المصدرة للنفط، يجلب انخفاض أسعار النفط انفراجة تستحق الترحيب للبلدان المستوردة للنفط في المنطقة. فهو يخفض فواتير استيراد الطاقة، ويخفف الضغوط على الميزانيات العامة بسبب انخفاض تكلفة دعم أسعار الطاقة الثابتة، كما يخفض تكاليف الإنتاج ويرفع الدخل المتاح للتصرف إذا انتقل انخفاض تكاليف الطاقة إلى الشركات والمستهلكين.
غير أن هناك عوامل أخرى توازن مكاسب انخفاض أسعار النفط في معظم البلدان المستوردة. فبعض المكاسب الاستثنائية التي تتحقق من انخفاض فواتير استيراد النفط تتلاشى مع تراجع الآفاق المتوقعة للطلب في منطقة اليورو ومجلس التعاون الخليجي، إلى جانب هبوط أسعار السلع الأولية غير النفطية التي تصدرها بعض البلدان. وحتى في هذه الحالة، يُتوقع حدوث تحسن كبير في آفاق النمو للبلدان المستوردة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وباكستان في عام 2015، مقارنة بعام 2014 (نحو 4 في المائة في مقابل 3 في المائة في العام الماضي)، كما يتوقع أن تشهد هذه البلدان بعض التحسن في أوضاع ميزانياتها العامة وموازين المدفوعات.
ورغم إيجابية هذه الانفراجة التي يحققها انخفاض أسعار النفط، فمن المهم إدراك أن المسار المستقبلي لأسعار النفط لا يزال محاطا بدرجة عالية من عدم اليقين. ومن ثم، يجدر بالبلدان المعنية أن تتجنب الدخول في التزامات إنفاق قد يتعذر عليها التراجع عنها إذا عادت أسعار النفط إلى مستوياتها المرتفعة أو حدثت تطورات معاكسة أخرى. والحل الأمثل في هذا الخصوص هو استخدام فترة انخفاض أسعار النفط لتكثيف جهود الإصلاح الداعمة لتحقيق نمو أسرع وأكثر شمولا لمختلف شرائح المجتمع والمؤدية إلى خلق فرص عمل أفضل للسكان.