إذاً، تمخضت مفاوضات أميركية روسية عن إقرار يومَيْ هدنة في حلب (مُدِّدت ثلاثة أيام)، بعد مرور أسبوعين على استهدافها المكثف بالقصف الذي طاول إضافة للبيوت والأسواق، المستشفيات ومحطة المياه الرئيسية. وفي الأصل لم يكن متوقعاً إقرار الهدنة لولا الضغوط الإعلامية المتصاعدة، والضغوط التي بدأت دول أوروبية وعربية ممارستها على ما يجوز تسميته بالتفاهم الأميركي- الروسي على استهداف حلب. يومان من الهدنة، بعد أسبوعين من القصف المتواصل المكثف، لنا أن نتخيل فيهما لهاث السوري الذي سيسعى إلى تأمين احتياجاته الضرورية تحسباً من دورة الوحشية المقبلة، وانتظار القدر المقبل بطائرة أو صاروخ، على البيت أو الشارع أو أي مكان آخر. يومان ربما لا يكفيان إلا لمن تتيسر له فرصة مغادرة الجحيم، وهي فرصة تكاد أن تكون مغلقة تماماً مثل الحدود السورية- التركية التي ردت آلاف اللاجئين في دورة القتل السابقة.
في العموم، يبدو ذلك معروفاً على نطاق واسع، ولا طائل من تكراره مجدداً، ولا جديد طالما أن ذلك السوري عاش خمس سنوات مماثلة في انتظار مقتله حتى تعايش معه كبديهية من بديهيات بقائه الطوعي أو الاختياري في البلد. ولكن، إذا قلنا إن الدم السوري كان طوال المدة الماضية يُستثمر في حسابات سياسية غير رحيمة، فإنه لم يكن موضوعاً على الطاولة كورقة ابتزاز مكشوفة. على الأقل، لم يكن ذلك يحدث بترخيص دولي واضح يتمثل في جعله إحدى مواد التفاوض، وجعل المقومات الضرورية لبقائه حياً مادة أخرى للتفاوض.
طوال سنوات، كان ممكناً حتى الاختلاف حول الاستثمار في الدم السوري، وكان ممكناً رد بعض المواقف إلى اللامبالاة أكثر من الاستثمار. هذا تغيرَ منذ بدء الإعداد لمفاوضات جنيف الأخيرة، فقبل وضع ما سمي اتفاق وقف الأعمال العدائية بدأ الشد والجذب حول موضوع الهدنة، وحينها وُضعت المعارضة في موقف الطرف الذي لا يريد الهدنة، أو الطرف غير الحريص على دماء السوريين، بناء على ربطها اتفاق وقف النار بالانتقال السياسي. وعلى رغم كل المآخذ المحقة في ما خص وفد هيئة التفاوض إلا أن الوقائع الحالية تثبت صواب مطلب الهيئة آنذاك، وصواب إلحاحها على إخراج دماء المدنيين من البازار السياسي الدموي الذي انطلق مع جلسات جنيف.
ينطلق الابتزاز الدولي من قسمة تبدأ بإعفاء النظام من مسؤوليته عن دماء السوريين، مع أنه ما زال يحتل مقعد سورية في الأمم المتحدة ويحظى بالشرعية الدولية وفقاً لذلك، وإلقاء تلك المسؤولية على المعارضة حصراً، مع غياب ظروف تمكينها من الناحيتين القانونية واللوجستية. مثلاً، تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري الأربعاء الفائت يفيد بمعرفة أدق التفاصيل، إذ يشير إلى إزالة النظام الأدوية ذات الاحتياج الحرج والمستلزمات الجراحية من الشحنات القليلة التي أوصلتها الأمم المتحدة إلى المناطق المحاصرة، مع قوله إن هذا العمل يأباه “الضمير”!، من دون أية إشارة إلى خرق المواثيق الدولية المتعلقة بحماية المدنيين أثناء الحرب.
التسليم بالطبيعة الدموية للنظام ليس تشريفاً للمعارضة، إذ يُبنى عليه تسليم بعدم العمل لردعه أو الحصول على تنازلات منه، أو في أحسن الأحوال النظر إلى يومي هدنة هنا ويوم هناك بمثابة إنجاز للضغوط التي يُفترض أنها مورست على النظام وحلفائه. أخطر من ذلك تجزئة المتطلبات الإنسانية ذاتها بالتركيز في مجلس الأمن على عدم استهداف المنشآت الطبية حصراً، ما يضمر استهانة باستهداف المنشآت المدنية الأخرى، بما فيها منشآت ذات طابع شديد الحيوية والصحية مثل وحدات تكرير المياه، هذا إذا تغاضينا عن استهداف الأبنية والتجمعات السكنية أصلاً.
عار الصمت الدولي على مجازر النظام أصبح من الماضي. نحن الآن إزاء سعي دولي إلى تلبيس المعارضة والثورة هذا العار من خلال الابتزاز المرافق للمفاوضات. الإرادة الدولية تتجلى كأنها سرير بروكست، يتعين بتر ما يفيض عنه من السوريين، مهما بدت محاولة مطّ النظام ليصبح بحجم السرير محكومة بالفشل. إغراق المعارضة بتفاصيل الشحنات الإنسانية، وتفاصيل الهدنة المجزأة والممنوحة تقسيطاً، لا يجوز ردّه إلى إستراتيجية ماكرة للنظام أو حلفائه، فوفد النظام أعلن منذ جنيف 2 نيته إفشال المفاوضات الحقيقية بإضاعة الوقت بالتفاصيل. هذا الدرس تابعه العالم من خلال آليات التفاوض الإسرائيلية مع الفلسطينيين، وبالطبع الإدارات الأميركية أعلم بها من الجميع.
تجزئة الهدنة وتقسيطها هما بمثابة خدمة للنظام، ففي ما عدا الخروق التي يقررها مع حلفائه صار متاحاً له برعاية أممية التعامل مع خصومه تقسيطاً، وتجميع قوته لاستهداف أكثر منهجية للمناطق ذات الأولوية، بخلاف حالة الاشتباك العامة التي أنهكت قواه طوال السنوات الماضية. واضح أيضاً أن أولويات النظام لا تزعج الإدارة الأميركية، كما ظهر في مدينة حلب بخاصة، فمخطط طرد المقاتلين من المدينة إلى الريف يمكن استغلاله لوضعهم في مواجهة “داعش” فقط، بعد فشل الإدارة في تدريب قوات تتعهد قتال التنظيم من دون قتال النظام.
بتعبير آخر، لا يعوّل التفاهم الروسي- الأميركي على مفاوضات سياسية جادة تفضي إلى انتقال سياسي، ومن ضمنه تشكيل جيش وطني يتكفل بمحاربة الإرهاب، كما هو معلن. وكلما تقدم الوقت سيزداد ضغط العنف والتدمير على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بغية تحقيق مكسب سياسي على طاولة التفاوض أو مكسب ميداني، أو الإثنين معاً. درجة العنف لن تكون على غرار ما عاشه السوريون طوال سنوات، بسبب إمكانية تركيزها على المناطق غير المشمولة بالهدن القصيرة والموضعية، وأيضاً بسبب حشد حلفاء النظام قوة نارية وبشرية غير مسبوقة استعداداً للحسم.
في الأمثال السورية يُقال: حبل الكذب قصير. كذلك حال الهدنة التي لا تمهد سوى لجولة أعتى من العنف، وهي بدل أن تكون أداة إنسانية تصبح سلاحاً فتاكاً تجاه ذلك السوري الواقع بين موعديها المتقاربين جداً. أما حدها الآخر فيُختزل بالطلب من الأهالي الابتعاد عن “الإرهابيين”، أي النزوح تحت التهديد وتحميل الحكومة التركية مسؤولية استقبالهم أو عدم استقبالهم. سورية المستقبل، كما يبدو، كيان يستلهم النموذج الإسرائيلي في تأسيسه، طبعاً باستثناء استلهام طبيعة الحكم الديموقراطية.
الحياة