في هذه الشهادة يروي الكاتب السوري المقيم في ألمانيا أحمد عمر قصة غرامه بالنشر منذ بداياتها “العبثية” في سوريا، مرورا بتركيا، قبل أن يحط الرحال في ألمانيا، حيث صدرت له قبل أشهر قليلة مجموعة قصصية بعنوان “امرؤ القيد الكردي”، وهي الثانية هذا العام بعد “في ديار العمة ميركل”.
وفي ما يأتي نص شهادة الكاتب السوري التي خص بها موقع الجزيرة نت.
حكاية غرامي بالنشر حكاية طويلة، بدأت باكرا بطرق باب دور النشر لتحرير الكلمات الأولى من أسرها، بكل يد مضرجة، ورغّبني صديق بالنشر، كأن صدور كتاب يجعل قارض الكلمات الهاوي كاتبا ويدخله في نادي الكتاب المحترفين، لكن هذا الحدث السعيد لم يقع لي.
كان النشر عقوبة دائما وشبهة سياسية. في سوريا الكثير من دور النشر، وأكثرها ينشر مقابل المال، الناشر في بلادنا ليس صاحب رسالة إنه صاحب بقالة، يطبع الكاتب ويوزع على أصدقائه، وأذكر أني وضعت كدسة من كتابي “قلب الدراق” على نضد في إحدى الأمسيات الثقافية السرية في صالون، وكتبت عليها جملة تستحق أن تكتب بالإبر على آماق البصر، أرجو وأتوسل القارئ بها متضرعا: “مجانا، سبيل، على روح الكاتب الميتة؛ اقروا لله يا محسنين”، فطلبت مني صاحبة الصالة أن تستفيد من ريع الكاتب فقلت لها ودمع العين يسبقني: هذه بضاعة مزجاة.
وكان النشر يصدم دائما بالرقيب، والرقابة مرحلتان، مثل الحواجز الأمنية، وتسمى في فروع التحقيق: الجنزير؛ موافقة اتحاد الكتاب على الطبع، وموافقة الإعلام على التوزيع. وطبعت كتابا ولم أحصل على الموافقة على التوزيع، فبقيت الكتب المطبوعة في ثوب العرس من غير البناء بالعروس.
هناك دور نشر تطبع لها نفوذ لدى الأمن، لكنها لا تتدخل في التوصيل والتوزيع، كأنها تعد الكاتب للاعتقال. أودعت روايتي “خلاف المقصود” لدى صديق، وقضى البيت تحت القصف. الصديق نفسه مات من الحسرة في الغربة.
الكاتب السوري أحمد عمر (الجزيرة) |
طبعت سبعة كتب، ولم أنعم بعد بتلك النعمة، نعمة التوقيع على كتاب؛ لم أر تلك النظرات العطشى في عين القارئ وهو يطمع في توقيعي ليباهي به أصحابه. ووقعت مع كتابي “قلب الدراق” في مشكلة قانونية، والقانونية تعني مشكلة أمنية، وقد أصابتني بالرعب.
سأعرضها باختصار: قدّمت مخطوطة قصصية لاتحاد الكتاب العرب لصاحبها “ع ع ع” (اختصار اسم رئيس اتحاد الكتاب الدائم) وشركائه، ومرَّ عليها حول لا أبا لك يسأم، فرأيت بعد النظر أن أزيدها وأغيّر بعض القصص، فقدمت مخطوطة أخرى فيها قصص جديدة منشورة في الصحافة السورية، وحصلت على الموافقة، ثم مزجت المجموعتين، كما مزج البوصيري دمعا جرى من مقلة بدم. نصحني حنا مينة بتقديم ثلاث نسخ من كتابي الأول لوزارة الثقافة التي تشتري 25 نسخة وتبيعها دعما للكاتب، وفعلت وكنت غافلا، أميّا لا أفهم في شؤون التوزيع والرقابة، كان كتابي -وإن حصل على موافقتي التوزيع والطبع- غير محمود لأسباب قومية، فخسرت نسخ العرض والإغراء التي تقدم للقراءة.
الطبع مقابل المال
وأرسلت الكتاب وعنوانه “قلب الدراق” للطبع مقابل مال يدفع فورا للناشر، وأتكفل أنا بتوزيع الكتاب. فطبع وقدمته لاتحاد الكتاب العرب مرة ثانية للحصول على ختم الاتحاد من أجل نقل الكتاب عبر وسائل النقل، وعند المراجعة طلب مني الموظف مراجعة رئيس الكتاب العرب برتبة فريق أول، فدخلت، فاتهمني فورا بصناعة ختم مزوّر، زوّرت به الموافقة، فذعرت حقا، وسبب ذعري أنّ جميع الموظفين ومن في مثابتهم يقصّون أذن كل مواطن له ثلاث آذان، ولم تكن لي ثلاث آذان، كما في الطرفة الشهيرة، لكن المشكلة أنهم يقصون ثم يحصون الآذان.
غلاف كتاب “مقصوف العمر” للكاتب السوري أحمد عمر (مواقع التواصل) |
دافعت عن نفسي، وشرحت الأمر للفريق أول رئيس اتحاد الكتاب العرب، لكنه تابع التحقيق والاتهام وأنا واقف في جفن الردى وهو نائم، وصادف أن زميلا في الكتابة يعرفني دخل، فشفع لي ووضح الأمر الذي انكشف له، فأرسل الفريق أول رئيس الاتحاد في طلب المخطوطة من مخازن الاتحاد، ورأى الموافقة القديمة والموافقة الحديثة، ثم تذكر أنّ الأختام يصيبها التلف فتبدل في حين أن الرؤساء فلا يصيبهم التلف حتى بعد الموت، فنجوت من تهمة تزوير الختم.
لكنه لم يقبل بالموافقة على دمجي مجموعتين بتاريخين متباعدين، فالموافقة القديمة انتهت صلاحيتها، وطلب مني إما اتلاف المجموعة وإما نزع القصة صاحبة الموافقة القديمة، وكانت قصة سياسية رمزية، وكنت قد أضفت قصة ثانية منشورة في صحف الدولة، فقيل لي هذا لا يعني أنها مجازة، فإجازة طبع الكتب غير إجازة الصحافة، وأذعرتْ القصة رئيس الاتحاد، وكانت فيها جمل مثل: “أشعر أني طائر في الإقامة الجبرية”، وهذه عبارة خطيرة توحي بأن سوريا مدينة غير فاضلة.
فأعدت الكتاب إلى دار النشر التي خافت وتكفلت بسلخ الغلاف، ونزع القصة من المجموعة. وقلت للمجموعة: وإنْ تكُ قد ساءتكِ مني خليقةٌ .. فسُلّي ثيابي من ثيابك تنسُلِ
أستطيع أن أروي باستفاضة قصصية وقوفي أمام ناشر وزارة الثقافة التي طبعت لي مجموعة عنوانها: “شارلز بن ديكنز”، وألحُ عليه في المساعدة في إخراج الكتاب المطبوع من المستودعات وتسريع توزيعه.
كان موظفا جديدا سعيدا بمنصبه، وله مقالة واحدة في مسيرته الثقافية. وكان ينظر لي متعجبا وأنا أدقق في كنيته الطائفية، في اسمه المدون على شاخصة فوق النضد، وجهله بشؤون الوزارة والطباعة والنشر.
تركيا وألمانيا
طبعت كتابي السادس في تركيا، وكان الطبع هينّا، لكن الدار لا تعرف كيف تبيع على الشبكة في أمازون وسواها من مراكز البيع الإلكترونية، وبيع من المجموعة في معرض الكتب مئة نسخة، وقيل هذا بيع حسن.
المجموعة السابعة والثامنة طبعتا في ألمانيا لدى دار نشر ألمانية، صاحبها لا يزال مبتدئا في علوم النشر وفنونها، ولا يشارك في معارض الكتاب التي تدعو الكتاب إلى العواصم، للمساهمة في بيع الكتب، فبعض القراء يريدون توقيع الكاتب على الكتاب. ما زلت أنتظر تلك الأميرة السندريلا التي تقع في حب الكاتب من توقيعه.
عرض زميل شاعر علي طبع مجموعة لكنه أخلف الوعد، وقد مرّت سنتان واحترقت الغابة، على الوعد وما مواعيد عرقوب إلا الأباطيل.
ناشر عربي مهم عرض على النشر، لكن ساءته مني تغريدة، فقاطعني، وفترت همتي على الطبع. لدي عدة مخطوطات قصصية محبوسة في الأقفاص، ولي صديق روائي له ثلاثية رواية عن الشام، كفر بالنشر كله بسبب صعوبة النشر بعد الثورة المضادة ذات القرون والحوافر.
أخشى أن أقول إنّ عصر القارئ الصبور انتهى، وجاء زمن التغريد، المقال السندويش، الفاست ريدينغ.
المصدر : الجزيرة