هل خطر ببال أحد بعد المأساة التي رافقت الثورة السورية اليتيمة وتداعياتها في كل من العراق واليمن، أن ينتفض شعب عربي آخر، وما رافق ذلك من موجات النزوح وظهور الثورات المضادة، ألم يكن ذلك كافياً للشعوب العربية أن ترضى بما هي فيه؟ فقد كانت للدكتاتوريات فضيلة الاستقرار والأمان بوجود أجهزتها الأمنية التي تقيس دقات قلوب الناس وما يمكن أن يجري في مخيلتهم، فكان من الطبيعي أن يُحدث ذلك الحال أمناً واستقراراً لسكان القبور العربية.
عدم التدخل الغربي الأمريكي الحقيقي وحسابات الرئيسين الأمريكيين غير الواقعية وبحث كل من أوباما و ترامب عن أمجاد شخصية، فالأول كان يريد اتفاقاً نووياً مع ايران بأي ثمن، و الثاني يريد إرضاء إسرائيل واستعادة قوة الاقتصاد الأمريكي إلى ما كان عليه قبل الحرب على العراق وأفغانستان وعدم حساب النتائج وفقاً للواقع العصري وتحول العالم الى قرية صغيرة ” العولمة” نتيجة هذا الإهمال حدثت موجات النزوح الداخلية واللجوء الخارجية في كل الدول الإقليمية المجاورة لسوريا والعالم، وأصبحت مأساة السوريين ولجوئهم وهيامهم على وجوههم في العالم مادة دعائية انتخابية لليمينين في المنطقة والعالم، وعلى المستوى الإستراتيجي فإن إيران أصبحت دولة مجاورة لإسرائيل، وهي الآن في حالة تنافس مع الروس على النفوذ في سوريا وتشكل كابوسا لإسرائيل، وكما استطاعت ايران أن تتناصف نفوذ الولايات المتحدة في العراق فلا يستبعد أن تستطيع مناصفة الروس في سوريا هذا إن لم يكن بمقدورها” طرد روسيا” والاستفراد في سوريا، ولا يمكن لتلك الضربات التي تقوم بها إسرائيل أن تغير الوضع وتؤدي إلى طرد ايران من سوريا، فطرد إيران من سوريا لا يمكن أن يكون مجدياً بالضربات أو بالعقوبات، فبحسب الخبراء الاستراتيجيين يتطلب إخراج ايران من المعادلة في سوريا ضربات عسكرية تستهدف النظام الإيراني في عقر داره وهذا لا يمكن للخبراء رؤيته يحدث على المدى القريب أو المتوسط.
عند زيارة البشير لبشار الأسد حيث يحمل كل منهما دماء مليون ضحية في عنقه من أبناء شعبه، وتلت زيارته إعادة الامارات العربية سفارتها في دمشق، شعرت الشعوب العربية بالإهانة، فكانت زيارة البشير إعلاناً عن انتصار الاستبداد على الشعوب، ثم ما أن عاد البشير إلى السودان حتى ظهرت انتفاضة السودانيين في وجهه والتي أدت الى خلعه، مؤدى هذا الحدث يعطي للباحث في الاجتماع السياسي أن يصل إلى قاعدة (اجتماعية سياسية)فيها نوع من السخرية مفادها أن الشعوب ومستبدوها لا يتعظون، فبالنسبة للشعب الجزائري والسوداني كان عليهم أخذ العبرة من السوريين وكان على المستبدين أخذ العبرة من علي عبد الله صالح والقذافي وغيرهما سابقاً ولاحقاً، لكن ما حدث في السودان و الجزائر يمكن أن يحسب كقاعدة سياسية اجتماعية، هي أن الضمير الجمعي للشعوب هو ضمير أعمى كالماء فإذا زاد الاستبداد عن حده ولم تُعَد له التجهيزات اللازمة فإنه سيفيض، بل ويتحول إلى طوفان، وهذا ما حدث في السودان.
وبغض النظر عن التحليلات السياسية التي تميل لتنسب السبب الى هذا المحور السياسي في المنطقة أو ذاك، وان بدا خلع البشير على شكل انقلاب عسكري، أو حتى تمثيلية وسيناريو من قبل الجنرالات فإن هذا الخلع يعكس حالة الاضطراب التي تعيشها الجنرالات المتحالفين مع الرؤساء أو المتقاسمين معهم التحكم في البلاد والعباد في الدول العربية، فلم تعد الشعوب العربية قادرة على تحمل بقاء هذه النماذج الاستبدادية في الحكم مهما كان الثمن مأساوياً.
لماذا لم نجد من يحمي الرئيسين الجزائري والسوداني كما وجدنا حماية مطلقة للدكتاتور السوري؟ في الإجابة وبعيداً عن وجهات النظر المرتبطة بالعوامل الجيوسياسية التي تجعل من سوريا وضعاً يختلف عن بقية الدول العربية، لكن بالنظر إلى حُماة النظام السوري ومقارنته مع حُماة النظاميين الجزائري والسوداني فإن هناك عوامل داخلية (الجنرالات) الذين توصلوا إلى قناعة بأنه لا يمكن لهذا الشكل الاستبدادي الفاضح ان يستمر في السلطة، خاصة لم تنفع مع الشعوب الكارثة التي حلت بالشعب السوري، وعوامل خارجية كالقوى الفاعلة في العالم الغربي (أمريكا_ روسيا) خصوصا الجزائر المتاخمة للغرب فرنسا على وجه التحديد، هذه الدول ودون الغوص في نظرية المؤامرة لم يعد بإمكانها تحمل تبعات تحول الجزائر إلى سوريا ثانية فذلك يعني رؤية ملايين اللاجئين الجزائريين يتجهون للغرب وخاصة فرنسا، وقد أسلفنا التداعيات والتكاليف التي تكبدتها الإنسانية نتيجة الوضع المأساوي في سوريا.
إذن يمكن القول أن الشعوب العربية وضعت قدمها في أول درجات التغيير، والعالم الآن أمام أولى موجات حصاد ثورات الربيع العربي بل وظهور شرق أوسط جديد، فقد أظهرت الأحداث أن نَفَس الشعوب أطول من نَفَس الاستبداد، لكن هناك امتحان حقيقي أمام الشعوب العربية وشعوب المنطقة، الامتحان الذي ينطوي على الحفاظ على المكتسبات، فرمزية رحيل الدكتاتور ليست سوى البداية فهل يمكن لهذه الشعوب ألا تترك ثوراتها وخط تقدمها عرضة للسرقة من قبل (الحركات الإيديولوجية مهما كانت مسمياتها وشعاراتها)، وهل سنشهد تغييراً يؤدي إلى رحيل الفساد والعنصرية وكثير من الأمراض (الاجتماعية والسياسية) مع رحيل الدكتاتور؟ هل سنرى بدايات التغيير في الذهنية لمجتمعاتنا لتكون المواسم القادمة مليئة بالغِلال والمكتسبات لشعوب المنطقة ونتخذ طريقنا نحو التحضر والإسهام في جعل العالم مكانا أكثر تحضراً وإنسانيةً؟
بقلم ؛ حسين شاكر