كان لنتيجة استفتاء الشعب البريطاني، الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقع القنبلة الصوتية على العالم، وليس فقط على الدول الأعضاء في الاتحاد. وكانت للشعب السوري الغارق في بحيرات دمائه، والمنهك بنزيفه، والمحروق بأتون حربٍ فريدة، مساهماته على صفحات التواصل الاجتماعي، مثلما كانت حديث اللحظة، وليس الساعة، في الواقع المعيش.
يهولك الحدّ عالي الوتيرة من الكلام العاطفي المنفعل الذي يخفي بين سطوره، وفي حنايا نبراته، توجّساً وقلقاً وخوفاً وتطيّراً من الأمر، فشعوب هذه المنطقة المصابة بنقص المناعة المكتسب نتيجة فيروس تمكّن منها تاريخياً، فيروس الهزائم والخيبات والإحباط والخذلان، سوف تعتريها نوبةٌ من الحمّى العارمة، إزاء حدثٍ بهذه الجسامة، وتبدأ الهذيانات والهلوسات تفعل فعلها وتجعلها تطارد أشباح الشياطين الراقصة على رجع النبأ.
منهم من شمت بأوروبا التي يعتبرها سبباً من أسباب بلائنا، ومنهم من اعتبر الأمر عدالةً إلهيةً، لأن الله يمهل ولا يهمل، ومنهم من توجّس من قرارٍ سوف يؤدّي، بحسب رأيه، إلى تدهور الوضع في سورية، منهم من راح يهزأ ويعبّر بسخرية مرّةٍ من الحالة العالمية كلها، كأن يقول: من منجزات اللاجئ السوري، فرط الاتحاد الأوروبي من أول سنة.
وبينهم أصواتٌ تحمل هلعاً من طبيعةٍ أخرى، أصوات اللاجئين في الدول الأوروبية، فقضيتهم شكلت أحد أسباب الرغبة بالخروج من الاتحاد بحسب مؤيديه، خصوصاً بعد أن ارتفعت أصواتٌ في غير بلد أوروبي، تدعو إلى استفتاء من هذا النوع.
في لحظاتٍ من هذا النوع، تتعطّل الذاكرة أمام هول الحرارة الانفعالية المرافقة، وتُنسى تجارب التاريخ وحِكمها، فكيف إذا كانت ذاكرة شعبٍ بحاله معطّلة، إلّا لناحية نصوصٍ تأسر العقل وتأسر الفكر والخيال في قوالب جامدةٍ، لم تعد تصلح لمواكبة الحياة في عصر الثورة الرقمية والمستوى الحضاري والمدني الذي وصلت إليه البشرية؟
أو لتبجيل القائد والتنازل عن الحياة وطموحها من أجل القضايا الكبرى التي لعظمتها صارت أبعد من إدراكنا لها، قضية الهوية القومية المهدّدة بعدوٍ يتربص بنا، وعيونه لا تنام؟
أي ذاكرةٍ ستتنبه إلى بريطانيا العظمى وجبروتها الإمبراطوري؟
بريطانيا الانفصالية التي قال عنها الدكتور أحمد برقاوي: أوروبا فيها بعض الأمم العالمية المؤثرة على مستوى الكوكب، بما تملك من قوةٍ ماديةٍ وثقافية على امتداد قرون: ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، الدول الاسكندينافية إلخ، وأي نوع من التغيّر في وعي أوروبا ذاتها ينتج عنه وعي أوروبا بغيرها.
وبريطانيا أحد مراكز القرار العالمي مالياً وسياسياً، واستفتاء شعبها على الخروج من الاتحاد الأوروبي لن يغيّر من مكانتها، وبخاصة أنها الأقرب إلى الولايات المتحدة الأميركية.
لا تنسوا أن بريطانيا لا هي من دول الشنغين، ولا هي من دول اليورو أصلاً، وروح المحافظة البريطاني متمكّن جداً، فعلام العرب في حيص بيص؟
كيف لا يكون العرب في “حيص بيص” من أمرهم، خصوصاً السوريين، وواقعهم يفوق، بسورياليته، أي جنونٍ مهما كانت عبقريته؟ لا يفهم السوريون صمت العالم من موتهم اليومي، من تشريدهم، من فقرهم، من جوعهم، من تدمير وطنهم، من تمكّن البدع الشيطانية المسماة “داعش” ومثيلاتها من مصيرهم وأقدارهم. كيف لا يدخلون حالة الارتياب والهلع، بينما المجازر لا تكفّ عن حصادها في الرقة، في دير الزور، في حلب، في حماة، في دمشق، في إدلب، في كل بقعةٍ من سورية المنتهكة، كيف لا تصيب السوريين لوثة المشهد الذي يجري على الأرض، يديره مخرجون احتلوا السماء؟
شعب أفقده الهلاك قدرته على التفكير، كيف له أن يواكب الأحداث العالمية بعين المراقب الراصد الفاهم، وأن يتابع السياسة في جولاتها البهلوانية الماكرة؟
حتى نخب هذا الشعب فشلت فشلاً مدمراً في لعب السياسة، فسورية كانت تعاني من عطالةٍ هائلةٍ في هذا المجال.
لم تكن في سورية حياة سياسية منذ عقود، وما دفعه المعارضون لأنظمة القمع السياسية والدينية والاقتصادية من فواتير باهظة في تلك العقود ذرّتها ريح العواصف التي اجتاحت الوطن السوري، في السنوات الخمس الدامية التي عرّت الواقع، وكشفت هشاشته، والفجوة الواسعة بين أولئك الآباء وجيل الأبناء الذين انتفضوا ليصنعوا مصيرهم.
شباب انطلقوا خلف أحلامهم بانتفاضةٍ تسعى إلى الانقلاب على واقع الحياة بكل تجلياته، فقنصت أحلامهم، وألفوا أنفسهم في أتون حربٍ دمّرت وطنهم، هجّرت أهلهم، أفقرتهم، عرّضتهم لشتى أنواع الإذلال والامتهان.
شباب ماتوا وآخرون ينتظرون موتهم، ومنهم من يعيشون بمزاج الموت وهم أحياء، بينما العالم يعيد ترتيب أوراقه.
العربي الجديد – سوسن جميل حسن