“أهل مكة أدرى بشعابها”, هكذا يقول العرب عندما يعجزون عن تفسير بعض التصرفات المنفردة أو الجماعية لبعض الأفراد أو الجماعات, ونحن مازلنا نقول “الفصائل العسكرية هم أدرى بتخطيط معاركهم وتنفيذها على الأرض”, ورغم ذلك يتساءل المواطن السوري الثائر, مدنيا كان أم عسكريا:
لماذا عادت جبهة حلب إلى التراجع والتقهقر, على حساب فتح المعارك في جبهة حماة؟
صحيح أن الإجابة على هذا السؤال هي من اختصاص القادة العسكريين, وهم الأكثر دراية بشعاب المعارك, ونحن بدورنا لن نتمكن من رسم الصورة الكاملة للأحداث التي تقوم بدورها بعمل مقاربة كبيرة للواقع العسكري على الأرض, وهذا من شأنه الإجابة على هكذا سؤال أو غيره الكثير من الأسئلة التي يطرحها السوريون على بعضهم البعض, ولكن بما أن لدينا حقيقة مريرة تم فرضها بإرادات واضحة أو خفية خارجية أو داخلية, منذ بدء الكفاح المسلح على الأرض مع بداية اندلاع أحداث الثورة السورية وحتى يومنا هذا, وهي الحقيقة التي لا تقبل الجدال بأن جميع الفصائل العسكرية, هي عبارة عن تجمعات مختلفة الأعداد والإمكانيات وغير مترابطة فيما بينها ولا تأتمر بأوامر قيادة عسكرية واحدة, وبمعني آخر هي فصائل كثيرة تختلف بمسمياتها وجهات دعمها واتجاهاتها الفكرية, بل وحتى الإيديولوجية التي بنت أفكارها عليها ونظرتها المستقبلية للمشروع الوطني السوري.
ومن خلال هذه الحقيقة الواضحة نستطيع أن نقترب نوعا ما من الإجابة على سؤالنا المذكور ولكننا سنبقى بعيدين عن إيجاد الإجابة الصائبة, لأن قادة الفصائل العسكرية, هم أنفسهم سيعجزون عن الإجابة نظرا للواقع الشائك والمعقد الذي تعاني منه الثورة السورية.
التشرذم الواضح أمامنا في طريقة أداء الفصائل العسكرية على الأرض كان جليا في معارك حلب الأخيرة, التي تمكن النظام وبكل سهولة من الاستفادة من هفواتها, وبالتالي أعاد لملمة صفوفه من جديد وامتلك زمام المبادرة من جديد وأعاد فرض حصاره القاسي على أحياء حلب الشرقية, التشرذم والتباعد والاختلاف بل وحتى والتباين بالأداء لم يكن منوطا بالجانب العسكري فقط, تعدى ذلك الواقع ليسيطر على طريقة التفكير السياسية بل وحتى الإعلامية في كل المؤسسات التابعة للثورة السورية في الخارج والداخل.
فهناك من التحق بالدعوات “التركية” لفتح جبهات المعارك في الشمال في عملية أطلقت عليها الدولة التركية “عملية درع الفرات”, التي لم تؤثر على قوات النظام في شيء, فالمعركة جاءت تلبية للدعوات الدولية بإبعاد “تنظيم الدولة الإسلامية” عن المناطق الحدودية السورية-التركية في المشهد العام, وتأمين تركيا لحدودها الجنوبية مع سورية في مشهدها الخاص من أجل ضمان عدم قيام كيان انفصالي في شمال سوريا يهدد الأمن الداخلي للدولة التركية, ترافقت هذه المعركة “درع الفرات” مع معركة “ملحمة حلب الكبرى”, وتضاربت العديد من الأنباء عن انسحاب العديد من الفصائل العسكرية المرابطة على الجبهة الجنوبية الغربية من مدينة حلب والتحاقها بالجبهة الشمالية في جرابلس, سيما أن تلك الفصائل هي ذات علاقة “ودودة” مع تركيا, وبالتالي عدنا إلى مسألة القرار وصنعه ومسألة الإملاءات وفرضها بعيدا عن المصلحة الداخلية التي تقضي بإحراج مدينة حلب بشكل كامل من قبضة قوات نظام الأسد والمليشيات المتحالفة معه.
ومن الناحية الأخرى, تبدو المعارك التي تشنها الفصائل العسكرية المناوئة لقوات النظام وعلى اختلاف ميولها وأسمائها في حماة, هي أيضا معارك هامة واستراتيجية وذلك لقربها الشديد من بعض المناطق الموالية والتي تعتبر حاضنة كبيرة لقوات النظام, ولكن الجبهة الحموية تعاني أيضا بين الحين والآخر من بعض التجاذبات والانقسامات في قطاعات المعارك التي تم توزيعها على عدد من الفصائل فنلاحظ نشاط القتال في بعض المناطق من الجبهة في حين أنه أقل نشاطا في خطوط أخرى من الجبهة نفسها.
قد يُنذر هذا الأمر بتكرار سيناريو حلب في حماة, إلّا إذا تمكنت تلك الفصائل مجتمعة من التوحد التام وليس التنسيق فقط في غرف عملياتها في جبهة حماة, بالشكل الذي يساهم في صنع قرار المعركة والاستمرار بها بعيدا عن سياسية تقديم الولاء للداعم ورغباته في الخارج.
بالتأكيد الواقع العسكري هو ليس واقعا نقيا من الأخطاء, فهذه الأخطاء موجودة في كل زمان ومكان في الثورة, والثورة التي لا تتمكن من تصحيح أخطائها, ستعاني كثيرا من العواقب السلبية مع تقدم الوقت, لذلك يجمع السوريون على رغبة إعادة تفعيل كل من جبهتي حلب وحماة في وقت واحد, من أجل تحقيق غايتين:
الغاية الأولى: هي أن محافظة حماة تعتبر الشريان المغذي لوجود واستمرار وجود النظام في حلب, فطريق الدعم “اللوجيستي” للنظام ينطلق من حماة إلى حلب فيما بات يعرف بطريق “أثريا-خناصر”, وتشكل استمرار المعارك في حماة استنزافا لقوات النظام هناك وإعاقة لسهولة تحرك إمداداته إلى داخل مدينة حلب.
الغاية الثانية: هي ضرب نية النظام وروسيا باستمرار الضغط العسكري على حلب المحاصرة, بهدف اقتحامها أو تسليمها لهم من قبل الثوار المحاصرين داخل المدينة, فحلب هي أحوج ما تكون اليوم لملحمة أخرى تعيد كسر القيود التي يفرضها النظام عليها.
يمكن أن يبدو هذا الطرح صعب التنفيذ على الأرض نوعا ما, لأن فتح الجبهات في كل من حلب وحماة يحتاج إلى قرار وتوحد وإمكانيات بشرية وعسكرية كبيرة, وأيضا قد يكون لموضوع التشرذم هنا دور في فتح المعارك في حلب, هذا الدور إيجابي في شكله ولكنه سلبي في مضمونه نظرا لأن العديد من الفصائل العسكرية العاملة فيها هي مستقلة عن نظيراتها في حماة, ولكنها بالتأكيد لن تكون معارك مثمرة على الجبهتين كما هو الحال بتوحدها وتنسيقها لعملها تحت قيادة واحدة.
أما باقي الجبهات في سورية كالساحل وجبهات درعا وريف دمشق, فهي تعاني ما تعانيه من هموم ومآزق ومشاكل جمة, الأمر الذي انعكس على دخول العديد منها في حالة “سبات” طويل.
وبالتأكيد الأفضل من كل ذلك أن تفتح الجبهات على طول خطوط التماس مع قوات النظام في وقت واحد وزمن مناسب, ولكن يقول السوريون:
يبدو هذا الطرح بعيدا عن الواقع لأننا نحن أهل الثورة, ونعلم الأخطاء التي وقعت بها الثورة, “وأهل الثورة أدرى بشابها”.
المركز الصحفي السوري- فادي أبو الجود