ما أصعبها من لحظات وما أقساها من مشاعر يعتصرها الألم والحسرة عندما يجلس السوري المهجَّر في بلاد الاغتراب والمهجر أمام شاشة التلفاز أو غيرها من والوسائل التي تقوم بنقل الصوت والصورة والحدث, ليطفئ نيران شوقه بمشهد خاطف وسريع لأحد الأزقة أو الشوارع من الحي الذي نشأ وترعرع فيه داخل بلدته أو مدينته التي تنتمي لوطنه الأم “سورية”.
قد لا تكون تلك الصورة جميلة و معبرة عن الواقع الإيجابي في حييه, فهي بالتأكيد لا تخلو من مظاهر القسوة والفتل والتدمير بفعل آلة عسكرية “همجية” تقودها جحافل العسكر الذين يأتمرون بأمر أعتا الأنظمة العسكرية الديكتاتورية الدموية في القرن الواحد والعشرين, صورة تبعث في النفس البشرية لذلك السوري المنفي خارج بلاده شعورا مزدوجا لا يمكن لأي إنسان آخر أن يكشف تفاصيله المعقدة, هو شعور مختلط بالألم والحسرة والخوف والأمل والفرح.
تشكِّل هذه الصورة التي يشاهدها السوري المنفي خارج وطنه, واقعا بات نمطيا أمام ناظريه قبل الآخرين, فبلاده تعيش مأساة العصر الحقيقة بكل معانيها منذ خمس سنوات وحتى الآن, هو واقع الحرب المرير, ولكنه ليس كواقع الحروب الأخرى التي اندلعت في العصر الحديث في أماكن متفرقة من العالم, هي الحرب التي يشنها نظام تخطى جميع الحدود, نظام متمرس بالإجرام, لا يعرف أي معنى للرحمة بالبشر والحجر, هي حرب من طرف واحدة, يساوي فيها المجتمع الدولي بين الجلاد والضحية.
يعلّق ذلك السوري المتألم مقلتي عينيه بذلك المشهد الصاعق الذي يُعرض على شاشة التلفاز في إحدى المحطات الإخبارية العربية وحتى الدولية, وهو يرى المنازل المدمرة والأبنية المهدمة داخل حيِّيه بعد أن اختصرها مقدِّم الأخبار ببضع كلمات تنقل الخبر عن مجزرة مروعة قد حدثت بحق من تبقى من المدنيين داخل حيه المنكوب.
تجهش عينيه بالبكاء عندما يشاهد تلك الأنقاض والكتل الإسمنتية المنهارة فوق رؤوس جيرانه الذين عاش معهم أياما طويلة جميلة سادتها مشاعر الألفة والحميمية بين أبناء الحي الواحد, وكثيرا ما تنهمر الدموع على وجنتيه اللتان أعياهما طول الانتظار, معلنا صرخة الألم التي باتت هاجسه وهاجس إخوانه من السوريين المهجرين في كل مكان من العالم.
ورغم ذلك الأسى الموجع للقلب والمرهق للإحساس جرّاء الصورة السلبية القاسية داخل الحي المدمر, يحس ذلك السوري المهجر بشيء من بصيص الأمل الذي يبدأ بدغدغة مشاعره المختلطة في تلك اللحظة, فقد حُرم منذ سنوات متواصلة من مشاهدة كل تفاصيل حييه التي طالما عرفها وعايشها.
يحن ذلك السوري لأدق تفاصيل تلك الصورة المؤلمة, فهو يشاهد جزءا صغيرا من الصورة المتشعبة لتضاريس حييه الذي كان مفعما بالحياة يوما ما, فيصيح صارخا, “هذا هو الشارع الذي كنت أسير فيه كل صباح متوجها إلى عملي, ومن هنا كنت أقتني احتياجاتي اليومية من المواد الأساسية, تلك هي الأبنية المتلاصقة التي كانت صاخبة بضجة الأحاديث التي يتبادلها ساكنوها, نعم هذه هي “حارتي” التي ولدت فيها وخرجت منها مرغما, لا بد وأن أعود إليها يوما من الأيام مهما طالت أيام الغربة والاغتراب.
المركز الصحفي السوري-فادي أبو الجود.