قصف عنيف وآلة قتل وتشريد عصفت بالسوريين في مناطقهم الخاضعة لسيطرة المعارضة، أدت إلى تهجير وتشريد ونزوح إلى مناطق أخرى ظن الناس أن فيها هناءً في العيش وهربا من الموت الذي يلاحقهم طيلة يومهم.
ظن “رامي” صاحب الخمسة والعشرين عاماً – كغيره من آلاف المواطنين السوريين – أنه لا مفرّ من الموت الذي يعيشه من في دول اللجوء الأوروبي كما هو حال من سبقه من سوريين إلى هناك لتأمين مستقبلهم والحفاظ على أرواحهم، كان كل همه أن ينأى بزوجته وطفليه “جاد وعبد الله” عما يحصل في مدينته إدلب بعد خروجها عن سيطرة قوات النظام في آذار/مارس من عام 2015، إذ بدأت بعد ذلك التاريخ الغارات الجوية تستهدف المدينة بكثافة ومن حين لآخر.
وبعد تفكير عميق وتخبط في الرأي ومناقشات عديدة مع زوجته، قرر رامي الذهاب إلى تركيا ومن ثم إلى ألمانيا ليبحث هناك في بلد اللجوء عن مكان أكثر أمناً من بلده الأم ومن ثم يحصل على الإقامة ويرسل لعائلته طلب لمّ شمل ويستقدمهم إليه.
فكر رامي كثيرا وخاصة بعد إلحاح زوجته بأن يأخذهم معه ليكونوا سوياً في كل شيء، إلا أن خوفه من خطر الغرق في البحر واحتيال المهربين الذين كثروا في ظل الأزمة وقلقه بشأن الحدود وحرس الحدود جعله يرفض ذلك الأمر وقرر الذهاب وحيداً ليؤمّن مكاناً مناسباً للعيش ومن ثم يرسل لأسرته للحاق به.
أعد رامي أغراضه الخاصة وقام بالاستعداد للسفر، ودّع عائلته وقبّل طفليه الصغيرين الذين لا يتجاوز أكبرهما الخامسة من العمر ومن ثم إلى خطوته الأولى في النزوح وهي الذهاب إلى تركيا عن طريق التهريب، فالحدود التركية السورية مغلقة ولا يوجد سبيل للذهاب إلى أوروبا إلا من هناك، اتصل بالمهرب الذي طلب منه 200 دولار أميركي لينقله إلى الجانب التركي، ولم يكن بوسع رامي إلا أن أمّن المبلغ ودفعه ليبدأ مستقبلاً جديداً بعيداً عن وحش الموت في وطنه.
مرت الأيام واستطاع رامي الوصول إلى تركيا وعبر البحر في قارب مطاطي مع عشرات المسافرين الآخرين ليصل إلى اليونان بعد رحلة شاقة قام بعدها بالتنقل عبر الغابات والبلدان والحدود إلى أن وصل إلى هدفه ألمانيا وبدأ بتعلم اللغة في انتظار مقابلته ودوره في الحصول على حق اللجوء والإقامة.
الأيام والأسابيع والشهور تمضي، يسمع رامي في الوسائل الإعلامية أن مدينته قد قصفت، يبدأ القلق وتبدأ الأفكار السيئة بالولوج إلى عقله ويأخذ العرق بالتصبب على جبينه، يتسارع إلى ذهنه صورة زوجته وولديه وكيف سيكونون في لحظة القصف في أشد أنواع الرعب، يطمئن عليهم عن طريق الانترنت ويهدئ من روعهم ويخبرهم بأن الخير أصبح قريبا وما هي إلا أيام وسيحصل على الإقامة ويرسل إليهم طلباً للمّ شملهم.
الثلاثون من أيار/مايو من العام الحالي، كانت مدينة إدلب تعيش ليلة هادئة يتخللها بعض الحذر وخاصة عند سماع الأهالي لصوت صفارة الإنذار التي تنذر بوجود طائرة في الأجواء، وعلى الرغم من أن تلك الطائرة قد تكون انتهت من تنفيذاتها وعائدة إلى قاعدتها إلا أن المواطنين قد اعتادوا على غدر تلك الطائرات.
تجاوزت الساعة العاشرة بقليل، بدأت صافرات الإنذار بالدوي في أنحاء المدينة لتنذر بوجود سرب من الطائرات الحربية الروسية في طريقها إلى إدلب، وما هي إلا دقائق معدودة وبدأت الطائرات بالانقضاض الواحدة تلو الأخرى على منازل المدنيين، إذ قامت بشن غارات جوية هي الأعنف بالصواريخ على الأحياء السكنية التي يقطنها المئات من السكان الذين لا ذنب لهم بما يحدث سوى أنهم أرادوا العيش بحرية وكرامة.
سرعان ما انتشر خبر الغارات الجوية على مواقع التواصل الاجتماعي، هرع رامي مسرعاً إلى جهازه المحمول ليتفقد زوجته وأولاده لكن دون جدوى، فلا يوجد أحد قيد الاتصال على الإنترنت حتى يتكلم معه ويطمئن قلبه على أسرته، بدأ بالبحث على صفحات الإنترنت عن مواقع الغارات ليتفاجأ أن إحدى تلك الغارات قد أصابت الحي الذي كان يقطن فيه مع عائلته، وبدأت الأفكار السيئة بالتغلغل إلى داخله وبدأ الخوف والقلق يسيطران عليه.
لم يكن لديه ما يفعله، اتصل بأحد أصدقائه في مدينته الأم ليطلب منه الاطمئنان له عن عائلته، ذهب الصديق إلى المشافي ليسأل عن أسماء زوجة صديقه وأولادها ليتفاجأ أن الزوجة والابن الأكبر قد فارقا الحياة ولم يبق سوى “جاد” الطفل الصغير الذي أصيب بحالة صدمة ودهشة خاصة بعد إخراجه حيا من تحت أنقاض منزله.
وصل ذلك الخبر إلى رامي، فلم يعد يعلم ماذا يفعل، وازدادت سرعة ضربات قلبه، لقد خسر الآن كل شيء وذهب كل ما كان يحلم به بتأمين حياة أطفاله وزوجته ومستقبلهم بعيداً عن الحرب، إلا أن آلة القتل كانت أشد فتكاً من صبر رامي وسعيه لتخليص عائلته مما هم فيه.
ليس رامي فقط، بل غيره كثير من السوريين فقدوا أغلى ما يملكون في حرب إبادة تواجه المدنيين الآمنين، ذنبهم الوحيد أنهم طلبوا العيش بحرية وكرامة في مدنهم بأمان وسلام.
المركز الصحفي السوري – محمد تاج