بعد ثلاث سنوات من الصمت الممضّ، أطلّ علينا فواز حداد برواية “السوريون الأعداء” (دار رياض الريس) التي تتابع ما جرى في سورية من أحداث حماه عام 1982 إلى بدايات عام 2014.
لقد أنجبت الثورة السورية مجموعة كبيرة من الروايات التي سيحكم التاريخ على قيمتها وديمومتها؛ ولكن رواية “السوريّون الأعداء” تبقى، في نظري، من أهم ما كُتب عن هذه الثورة التي تلاعبت بها الرياح والعواصف وكادت أن تغرقها في متاهات اللامعنى، حيث يتابع حداد رحلة العذاب السورية التي بدأت منذ نصف قرن تقريباً، ليوصلنا إلى الزاوية التي حُشر فيها بنو سورية.
تبدأ رحلة العذاب هذه من أحداث حماه التي خصّص لها الكاتب حوالي 400 صفحة. ثمة عائلة حموية تباد، وينجو منها طفل رضيع تهرّبه إحدى العجائز إلى دمشق، وتوصله إلى بيت عمه “القاضي العادل في بلد ظالم”.
العم هو الراوي في هذا الجزء. والطفل هو الشاهد الوحيد على تلك العائلة المبادة. “ما أسهل القتل” كما يقول النص. ينتصر النظام على الإخوان المسلمين الذين يزج بهم في السجون المريعة (تدمر) ويقضي على كثير منهم بالإعدام دون محاكمة: “لا جرحى لدينا، فقط أحياء أو أموات”، قال الطبيب للرائد مروان الجزار الذي أراد تنظيف الأرض من الإخوان.
”
يأخذنا النص إلى سجن تدمر وإلى الحياة المروّعة فيه
”
تبدأ رحلة سليمان طالب البكالوريا من الوشاية على خاله (ربما هو صلاح جديد) لدى وزير الدفاع الذي سيحكم سورية 30 سنة. والقصة كلها قصة غرام (يرفض الخال تزويجه بنته) وانتقام (كما في الأفلام المصرية أيام زمان).
ومع أن معدل سليمان في البكالوريا هو مقبول، سُجل في كلية الهندسة “على أنه ابن شهيد، مع أن أباه على قيد الحياة”. ولكن الرئيس ينصحه بالانتساب إلى الكلية العسكرية، فيصبح ضابط أمن في القطعات العسكرية. فكان يستدرج معارفه وزملاءه إلى الاستطراد في الكلام بحرية كي يشي بهم لاحقاً.
يبدأ حصار حماه: “في حماه فرص لا تعوّض، السلب والنهب متوفران بسخاء، مع فضاء مفتوح للقتل ولا شيء غير القتل”. ويضيف “الإعدام تم ببساطة. انصرف الجنود إلى الطعام، والأموات إلى الموت”.
“ما عذبني كان أكثر مما تطيقه روحي”، قال القاضي بعد أن استلم الطفل الرضيع من المرأة العجوز؛ وسافر العم إلى حماه، بعد فك الحصار؛ وعلم ما حدث لعائلة أخيه ولنجاة الرضيع بتدخل الجارة العجوز.
في أحداث حماه، كما تقول الرواية، ترتفع أسهم سرايا الدفاع التي باتت القوة الضاربة الأولى في سورية قبل الجيش النظامي. وتتعاقب الإعدامات الميدانية التي تمارسها دون محاكمة. ويتدخل الرئيس لإيقافها، ويتم سوق المعتقلين إلى دمشق وانتزاع المعلومات منهم، بشتى الطرق؛ لا مشكلة في ذلك.
يصعد نجم النقيب سليمان الذي كان ولاؤه للمخابرات أقوى من ولائه للجيش. ويخوض مع أحد الروّاد سجالاً دينياً حول تدخل الله أو إحجامه في أحداث حماه، وينتهي به الأمر إلى القول: “القضاء على رب الإسلاميين، يتحقق بالتيئيس منه [الله]، فهو عاجز، لا يحمي ولا يساعد ولا ينقذ. استغاثاتهم به وبأنبيائه ورسله لا تجديهم نفعاً، ماتوا حتف أنوفهم”.
ليأخذ القاضي فكرة عما حدث في مدينته، يزورها بُعيد التدمير: “كانت البيوت ركاماً، والدكاكين ركاماً”. ويسمع الأهوال من الناجين: “لم يعد هناك ما يربطني بمدينتي سوى الألم، والقليل من الأقارب والأصدقاء”. ويخلص إلى أن “الانتصار على حماه لم يكن إلا هزيمة”، كما سيتبين ذلك في أحداث 2011. وبعد مأساة حماه، يقول الكاتب، “وضع الرئيس نصب عينيه الاستيلاء على سورية وفاز بها”.
”
يروي لنا حدّاد مأساة رجل هندس النظام وألّه الرئيس وأخلص لابنه
”
يأخذنا النص إلى سجن تدمر وإلى الحياة المروّعة فيه، “كانت الحياة لعنة والموت نعمة”. ويسهب الكاتب في وصف الأهوال التي يتعرّض لها السجناء هناك، لا سيما الذين لم يأخذهم الموت في حماه وحلب وجسر الشغور.
هنا يلتقي حداد بالروائيين السوريين الكثيرين الذين تكلموا عن السجن السياسي، فيحبّر عشرات الصفحات عن التنكيل بالسجناء وعن علاقة السجين بالسجّان. وتبدأ التعليقات عن مجازر حماه، ولا سيما تلك التي صدرت عن شيوخ العلويين: “لقد سلبهم [الرئيس] أبناءهم، زيّن لهم العمل في الجيش والمخابرات، واستخدمهم أجراء زعران يعيثون فساداً في دمشق وحلب. إن ما يلحقونه من أذى بالناس يلصق بالطائفة، ما أساء لسمعتها، وهي منه براء”.
“الخراب هو دمار حماه. في الضيعة وفي القرى المجاورة يظنون ما جرى انتصاراً للطائفة على السنّة، ليت الرئيس عالج الفتنة بلا شعارات طائفية، واقتصّ فقط من الذين افتعلوها… قتلى حماه بالآلاف والسرقات بالملايين… وهناك من جلب معه تذكارات؛ أياد مقطوعة وآذان مصلومة… ألا تسوّغ هذه الأعمال اضطهاد الطائفة في المستقبل، وكل هذا كي تستأثر فئة بالحكم… أنا خائف على الطائفة”.
ثم ينقلنا الكاتب إلى بعض الأوساط العلوية التي تؤمن بأن الرئيس مرسل من المرسلين. يقول أحد الشيوخ: “إن الشعب العلوي كان موعوداً بقدومه منذ زمن طويل، علامات ظهوره كانت تلوح بين الحين والآخر، لا يراها سوى عباده المصطفين بالبصيرة والعقل”.
ولم يبق بين الرسالة الربانية وبين الألوهة إلا فارق بسيط تم تجاوزه بسرعة: “هذا الشعب اعتاد الإلهامات السماوية والرسل والأنبياء، لا يرضى بأقل منها، ينظر إلى الرئاسة على أنها موطن الآلهة”.
ها هو الإله يتجسد في شخص، وها هم جنوده في شوارع حماه يهتفون ويهللون رافعين أسلحتهم وأصواتهم عالياً : لا إله إلا الله… حافظ ولي الله… قائدنا من القرداحة… بيعطي على الله لاحة”.
روّج لهذه الفكرة مهندس القصر الرئاسي – وهو على الأرجح اللواء غازي كنعان الذي لم تذكره الرواية اسمياً – “هذا الرجل لديه ملامح من الله… الأمر ليس تحويل الرئيس من شخص عادي إلى شخص غير عادي أو خارق، بل إلى شخص يتخطى البشر بعظمته، مقدس معصوم من الخطأ، ما يرفعه إلى مقام الرسل والأنبياء وأكثر، إلى ما يشبه الله، رديف للرب… الرئيس مؤهل لاحتلال مكان الله… الله تجسّد فيه، وما ظهوره واعتلاؤه عرش سوريا، إلا إيذاناً بمتغيرات تشمل الزمان السوري الآتي… هو معبود، لن ينقصه العباد”. وهذا المهندس هو الذي بدأ يعدّ العدّة لينصّب الرئيس إلهاً.
ويتابع الكاتب أحداث الثمانينيات والتسعينيات: دخول الجيش السوري إلى لبنان، مرض الرئيس ثم شفاؤه وصراعه مع أخيه رفعت الذي نُفي إلى أوروبا، موضة التماثيل والصور العملاقة، تسمية المشاريع والبلدات المستحدثة والشوارع والساحات والمساجد باسمه…
يسخر فواز حداد من هذه المبالغات قائلاً: “سوف تغطي [المساجد الأسدية] مساجد العالم كله، وبذلك يعم الأسد كماركة سورية مسجلة”. وفي مادة التربية القومية صدرت إيعازات إلى المدارس والجامعات “بالتركيز على السيد الرئيس أكثر من حزب البعث، والحركة التصحيحية أكثر من ثورة 8 آذار… وأن سورية الحديثة هي سورية الأسد، والتاريخ السوري بدأ فعلياً مع الرئيس، وما قبله لم يكن تاريخاً يعتدّ به…”.
هكذا غطت صوره فضاء سورية، وتردد اسمه على المسامع “منذ الصباح حتى المساء، في نشرات الأخبار والأناشيد والأغاني الوطنية، تذكرة للناس بأنه الخالق لسورية الحديثة، والأهم في خطبة يوم الجمعة يتردد اسمه في المساجد، بيوت الله، وأيام الآحاد في الكنائس يقترن بالله، اقتران الخالق بالخالق”. باختصار “سورية اختصرت بـ… سورية الأسد”.
لعل الجانب الأهم في رواية “السوريّون الأعداء” هو تحليل الذهنية المخابراتية وتشريح جهازها. وساقها الكاتب على النحو التالي: يفكّر “المهندس” في القصر الجمهوري في إنشاء جهاز مخابرات على المخابرات يكون تابعاً للرئيس مباشرة.
وبعد أن صار الجهاز أمراً واقعاً، بدأ “المهندس” جولاته في الفروع والإدارات: “اصطاد من كل جهة عنصراً يعمل في موقع حساس، ليكون جاسوساً له، أعطاه وصف المراسل كي لا يكون في التسمية ما يسيء إلى مشاعر الجاسوس”.
ويبدأ البحث في تجاوزات المسؤولين والضباط الكبار. يباشر في نبش ملفات “إدارة القضايا المستعجلة” والملفات الإشكالية: “كانت الغنيمة ضخمة جداً، طالت القسم الأكبر من مسؤولي الدولة ووزرائها، وضباطاً كباراً وصغاراً، وتجاراً مرموقين ورجال أعمال”.
يكتشف أن الأجهزة تشكّل دولة موازية للدولة، “سيطرت على الدين وتفسيره فأصبح للدولة مشايخها، يحثون الناس في خطبهم أيام الجمعة على طاعة أولي الأمر. حتى أصبح هناك دين معزز بالآليات والفتاوى، هو دين الخضوع”.
وينقلنا الكاتب بعد أربعمئة صفحة كتبها عن فترة الأب إلى المئة صفحة الأخيرة التي كتبها عن فترة الابن، وعن التوجس الذي أصاب الأجهزة بعد الثورة التونسية، وأكد أحد ضباطها أن “لا شيء سيحصل، الأجهزة مستنفرة”.
يجتمع ضباط المخابرات ليتدارسوا مظاهرة سوق الحريقة واعتذار وزير الداخلية، وليروزوا الشعار الأول للثورة “الشعب السوري ما بينذلّ”. يلام وزير الداخلية على تساهله حيث اطمأن إلى أن:”سورية يحميها نهجها المقاوم والممانع”.
بدأت الثورة في 15 آذار من بوابة الجامع الأموي بشعارات : “الله سورية حرية وبس”، “وينك يا سوري وينك”، “الشعب السوري ما بينذلّ”، “سلمية سلمية”؛ تحولت بعد ذلك إلى “الشعب يريد إسقاط النظام” وبدأت من درعا.
يعدّ الرئيس الشاب العدة لخطاب أمام مجلس الشعب قد يعلن فيه عن تنازلات. بينما عقدت الأجهزة الأمنية “المئات من غرف العمليات، وكلها تعمل على تحشيد قواها، وجمع الأنصار، واستئجار أصحاب السوابق، واستدعاء المتقاعدين، وتجنيد الطلبة والعمال، وبث العملاء للتحريض على استمرار معركة بدأت، ولن تنتهي، وكلما بردت أججوها”.
تلجأ الأجهزة إلى المناورة، لأنها سر النجاح، “جماعتنا أتقنوها”. وتؤكد بأن الرئيس لن يستطيع الانقلاب على النظام، الرئيس والنظام شيء واحد لا انفصال بينهما، النظام يصنع الرئيس، وأي تنازل يقدّمه أحدهما، يخسره كلاهما.
يسقط أحدهما فيسقط الآخر. وإذا بالخطاب اتهامي وتحريضي على رؤوس المؤامرة: “الرئيس الابن خاض معركة حربية، استخدم فيها تكتيكات ذكية، واكتسح خصومه بنصر مؤّزر”. وعلق أحد أعضاء مجلس الشعب على شخصية الرئيس قائلاً: “إن الوطن العربي قليل عليه، يجب أن يقود العالم”.
يوافق المهندس – الذي كان وراء عمليات القتل في الجامع العمري في درعا – على “إطلاق العنان لجميع الوسائل القمعية كي يستعيد النظام هيبته”، والتركيز على الفتنة الطائفية “التي يجب اختلاقها، لسنا مخيّرين”. كما يبدأ التسليح الطائفي والتجييش، ويزَجّ الجيش العقائدي في المعركة.
يشتد الخطاب الطائفي، الذي ركّز عليه فواز حداد: “علينا نحن العلويين إدراك أن السلطة حكر لنا، لا تقل لي إنك تجهل ما قدّمه لنا الرئيس الخالد. منح الطائفة كل ما حرمت منه، المال والنفوذ، المؤهل الوحيد لأي واحد منّا، أنه علوي. الرئيس الابن لم يقصّر، سار على نهج أبيه، أعطى العلويين تجارات وتعهدات ومناصب، وفتح لهم خطوط التهريب والممنوعات، لم يحاسبهم على جرائمهم وسرقاتهم وعصاباتهم. وأفسح لهم المجال لاحتلال مختلف المواقع في الجيش والمخابرات والدولة والإعلام والصحافة… حتى المعارضة لم تخلُ منهم”.
تنتهي الرواية بتسجيل لصوت “المهندس” الذي ينوي قتل الرئيس إن تخلى عن الحلّ العسكري؛ ويُمهل خمس دقائق للانتحار، فينتحر: “وضغط على الزناد، لئلا يندم”.
لقد تابع الكاتب الأحداث التي عرفتها سورية متابعة دقيقة، مركزاً على بعض الشخصيات المعارضة والموالية، ولكن الشخصية المخابراتية تبقى الشخصية المهيمنة على النص (شخصيات الفروع الأمنية التي يتسيّدها غازي كنعان الذي صعد وصعد، ولكنه في النهاية سقط وانتحر حباً بالنظام لا حقداً عليه، وهنا مأساة المآسي).
هكذا يروي لنا حدّاد مأساة رجل هندس النظام وألّه الرئيس وأخلص لابنه بشرط أن يبقى على نهج أبيه، وفتك به النظام في المحصّلة. مأساة عبثية، وما أكثر العبث في هذه الأيام.
العربي الجديد