وجدان ناصيف
في شهر أيلول من العام الماضي، عُرض علينا أن نقدم عروض مشاريع للنساء في الداخل السوري على منصة “زومال”. ما أن وصل العرض حتى بدأتُ رحلة تواصل مع من أعرف اهتمامهن بالمشاريع الصغيرة والمشاريع متناهية الصغر، من النساء الناشطات في الداخل، لتمكين النساء اقتصادياً، والمساهمة في تغيير حياتهن ومن ثم تغير مجتمعاتهن. في رحلة بحثي جاءني تسجيل على إحدى وسائل الاتصالات من صديقة لي في ريف دمشق:
“فكرتك جاءت في أوانها … هل تذكرين ح. ع؟ طالبتني قبل أشهر بأن أجد لها عملاً وإلا ستذهب الى لبنان وتنحرف! قالت أنهم عرضوا عليها العمل في مطعم في بيروت مقابل مبلغ مغرٍ… لكن كلنا نعرف أن الأمر ليس كذلك … قلت لها، سأقتلك قبل أن تذهبي!”
كان تسجيل صديقتي بمثابة الصدمة! فالصبية التي سأسميها هنا “حورية”، هي فتاة في نهاية العشرينات، ابنة عائلة كريمة، جار عليها الزمن مثل ملايين العائلات السوريات، واضطرت للخروج من مدينتها التي يتقاسمها داعش والنظام. هرب أخواها كلٌّ لسبب مختلف واختفت أخبارهما، وأما صغيرهم المطلوب من قبل جهات مختلفة، فقد خبّأته الأم بـ “رمش العين” كما تفعل الكثير من الأمهات. كان على حورية أن تصرف على والديها وأخيها طوال هذه السنوات. وبرغم حصولها على شهادة معهد متوسط، إلاّ أنّها لم تجد عملاً مستقراً، كانت بين الحين والآخر تعمل في تنظيف البيوت لدى السيدات الأرستقراطيات اللواتي انخفضت أعدادهن مع طول فترة الأزمة.
لم تنجح مشاريعنا التي قدمت لـ”زومال”، ولم نجنِ المبالغ المطلوبة، وبالتالي خسرنا حتى ما استطعنا جمعه، وهنا قصة أخرى لست بوارد الحديث عنها. كان كلّ ما تمّ الحصول عليه من قبل منظمة نسوية فرنسية، علمت مصادفة بالموضوع، هو مبلغ 600 يورو، قُدم لامرأتين في ريف القنيطرة لشراء نول للتطريز على القماش مع المواد الأولية اللازمة. لا أعرف إن كانت السيدتان سوف” تغيّران مجتمعهما”، لكن بأسوأ الأحوال، سيطعم عملهما أفواها جائعة لأطفال خسروا الآباء والبيوت. حينما قبضت المبلغ الصغير، وبعد طول جدال مع المنظمة النسويّة حول وضع النساء السوريات وحاجتهن لإقامة مشاريع تكفيهن شرّ العوز وإهانات السلل الإغاثية، مضيت وأنا ألعن العالم والمنظمات الدولية وألعننا، وأردّد جملة أمي الشهيرة، التي كانت تحبطني، ولم أتصور يوماً بأني سأرددها: “يا قلّة الحيلة … يا قلّة حيلتي”!
المنظمات النسوية السورية التي توجهت للتمكين السياسي باعتباره الأولوية، والمنظمات الدولية التي اكتفت بتقديم السلل الاغاثية، بالإضافة الى ” قلة حيلة” أصدقائي في بلاد الشتات، جعل غضبي يتفاقم إلى حد لم أعد استطيع السيطرة عليه. أكره الغضب، الغضب يوقظ فينا بريّة وتوحّشاً، قد تنسلّ من ثقوب لا وعينا وتوصلنا إلى نهايات وخيمة … أكتفي بالحزن … نعم، “احزني ما طاب لك الحزن”. فقط صوت صبية سورية جاء لينتشلني عبر رابط لصفحة، مع جملة سحرية “التمويل الجماعي”، نعم فلنتكل على أنفسنا، كلٌّ حسب استطاعته: شباب وصبايا سوريون يجمعون مبالغ قليلة تكبر بالصداقات والمعارف، وتوضع في مشاريع صغيرة وتدار بشفافية عالية وأمام الجميع، هذا أحد الحلول التي علينا التفكير بها للوصول إلى مستقبل كريم.
أعود لحورية، ماذا لو قبلت عرض العمل في مطعم لبنانيّ رفض صاحبه أن يعطي أيّ معلومات عنه؟ ماذا لو ذهبت مع صديقاتها الثلاث، اللواتي قدمنا لهن مشروعاً لمطعم صغير، ولم يتمّ قبوله على المنصة لأنه لا يتوافق مع أهداف برنامج الجهة المانحة: المساهمة في “تغيير مجتمعاتهن”؟ ماذا لو كانت حوريّة اليوم بين هؤلاء، هل كان أخوها سينسلّ من بين “رموش العين “ليقتلها؟
أخبط على رأسي وأنا أرى فيديوهات النساء السوريات الخمسِ والسبعين، المنهكات والمعذبات والمنتهكات؟
لكن صديقتي تردّ على قلة حيلتي بتسجيل جديد: “العين بصيرة واليد قصيرة، لكننا مازلنا نستطيع تقاسم لقيماتنا القليلة. تكتفي صديقتي بهذه الكلمات وتناشدنا أن نفكر بحلول بعيداً عن السلل الإغاثية والمطاعم البيروتية.
الهبوط للعالم السفلي …
في عام 1988 تعرّفت على المجتمع السفلي في سوريا. فقط في ذلك الوقت التقيت وجهاً لوجه مع من يمارسن أقدم مهنه في التاريخ.
لم نكن يومها قادمات من عالم علوي، بل من عالم سفلي موازٍ، فرع فلسطين!
أذكر عنصراً مرافقاً لنا في طريقنا من فرع فلسطين إلى سجن دوما، كان الشاب من بلدتي ويعرف عائلتي، بقي يلعنني ويشتمني طوال الطريق ويقول لي أنّي سببت الذل لأهلي. “الله لا يوفقك شو عملت بحالك وبأهلك … هاي رح تروحي تعيشي بين ال…”، كررها مراراَ طوال الطريق، وكان علي أن أسمعه وأسكت. عرفت بعد ذلك بسنوات أن النساء اللواتي يصلن إلى العالم السفلي لأي سبب، سيوشمن طويلاً بوشمه الذي سيطال عائلاتهن أيضاً من قبل مجتمعاتهن، وسيلعنهن أشخاص كثيرون، مثلما فعل العنصر الذي أعطى لنفسه الحقّ بلعني لأنه ابن مجتمعي وممثله أمامي.
فقط من خلال كلمات الشاب “الغاضب” علمت إلى أين كانوا يسوقوننا، لكني سرعان ما اكتشفت بأن عقوبة عيشنا سنوات مع “نساء الدعارة”، كانت أشرف وأرحم بكثير من العيش في العالم السفلي للفروع الأمنية، الفروع التي سيبقى الشاب طويلاً يراها عالماً علوياً.
في العالم السفلي الذي وصلنا إليه كان هناك فتيات يعملن بكامل إرادتهن وهؤلاء قلّة بين الكثيرات وتجمعهن ميزات خاصة: المرح والثقة والاهتمام بجمالهن، لكن هؤلاء أيضاً ينقسمن إلى طبقيتين: طبقة ارستقراطية، وغالباً ما تكون إقامة هؤلاء قصيرة في هذا المكان بسبب علاقاتهن بالمتنفذين، وطبقة مسحوقة من النساء الأقل جمالاً ودعماً واللواتي ستتكرر وجوههن علينا كل بضعة أشهر، هؤلاء يتعرضن لكافة أنواع الابتزاز من القضاة والمحامين وتجار الدعارة الذين يقدمون لهنّ عروضهم المشروطة لتقديم إخلاء السبيل، هنّ بلا سند من النافذين في العالم العلوي، النافذين الباطنين، الذين يتقنون فن “النفاذ” بين العالمين.
وفي العالم السفلي هناك أكثريّة دُفعت إلى هذه المهنة مرغمة، وهؤلاء هن الأكثر عدداً وقهراً ومرضاً وتعرّضاً للإدمان وللانتحار، هنّ العبدات، فمثلما أن “الدعارة” هي أقدم مهنة للنساء في التاريخ فـ”الاسترقاق” هو من أقدم مهن الرجال أيضاً.
في ذلك الوقت تعرفت على المعنى الحقيقي لـ” جريمة الشرف”، وذلك عندما سمعت أن مريم السمراء المرحة قتلت بيد أخيها، الذي خرج من السجن بعد أسابيع من ارتكاب جريمته. كان زوجها هو من يدير لها أعمالها وهو الذي يقرّر لها كلّ شيء، وكانت هي تنتهز أيامها القليلة في السجن لتشتمه وتشتم ساعة معرفتها به. لكن سرعان ما قرّرت مريم أن تشمّ هواء العالم العلوي، فأفشى الزوج سرّها لأخيها، الذي ربما ارتأى أن قتل المرأة أهون بكثير من طلاقها.
العالمان حين يلتقيان …
في العودة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، يبدو أن تزامن اكتشاف الشبكة الإجرامية لاسترقاق النساء السوريات في بيروت ونجاتهن بالصدفة، مع الضجّة الإعلامية حول بيان المجلس النسائي الاستشاري، ليس مصادفة، هو الالتقاء اللحظي لعالمين علويّ وسفليّ يتبادلان المواقع. العالم الذي تمثّله النخبة، النساء البيضاوات المدعومات من منظمات أوربية، والتي تشترط العمل مع نساء قادرات على “تغيير مجتمعاتهن”، المفروضات من قبل المجتمع الدولي على القوى السياسية، التي قبلت مرغمة وجودهن، لكنها استمرت في تنميطهن في خانة “الاكسسوار”، والعالم السفلي، المغيّب والمهمش والمستعبد، والمهدد بقطع اللسان عند أيّة محاولة للكلام. هؤلاء لم يسمعن بالمنظمات النسويّة التي انصبّ تركيزها على التمكين السياسي للمرأة متجاهلة حاجات النساء الاقتصادية لتعشن بكرامة، تمكنهن من المشاركة والمساهمة مستقبلاً في “تغيير مجتمعاتهن”.
هذا اللقاء المؤقت بين العالمين، شكّل صفعة لحواسنا ولمنظومة أفكارنا، وكأنه نتيجة طبيعية لأخذنا بدون أن ندري إلى هذا المكان، حيث نحن شعبان، وكلّ شعب يتكوّن في الوقت نفسه من طبقتين، تماماً مثل طبقات “عالم الدعارة”، عالم سفلي يتشابه فيه المهمشون والمهمشات، بأنهم ومنذ سنوات مسجونون ومستعبدون من قبل تجار البشر، يخضعونهم لشتّى أنواع التعذيب والإذلال، فالمكان الذي سجنت فيه النساء لا يختلف وقد يكون أرحم من أقبية النظام أو سجون داعش. والعالم العلويّ هو عالم البيانات وعالم الاستشاريات والنخبة، عالم الارستقراطية الموشومة أبداً بوشم العالم العلوي.
لن يكفّ العالم السفلي عن تبادل المواقع كلّ حين مع العالم العلوي، لكنهما لن يلتقيا إلا في اللحظة الحاسمة، اللحظة الصفعة، لحظة سيتمّ تغليفها فيما بعد بمئات الأكاذيب والبيانات والحجج والمبررات وسننسى.
خمس وسبعون امرأة، وربما الآلاف غيرهن ممن وشمهن حظهن العاثر بوشم العالم السفلي الذي سيطفو مؤقتاً ليشم هواءً حراً، بعد سنوات طويلة من هواء العبودية، لكنه لن يبقى كثيراً على السطح، فالكل سيجتمعون على تجاهله وإعادة طمره، كلّ لسبب مختلف: كرامة المجتمع، عرضنا وسمعة النساء السوريات، والبعض سيبادر لتوبيخهن: “الله لا يوفقكن … جبتوا العار لأهلكن … للأبد …”، وسيكون عليهن أن يواجهن وحيدات، خيارات قليلة، أقساها مرّ.
سيعود العالمان ليبتعدا بعد أن التقيا، وسيبتعدان أكثر فأكثر، ثم ستأتي لحظة أخرى، سيتبادلان فيها المواقع مؤقتاً من جديد، ومعهما سينقسم المجتمع الذي “سنغيّره” بفضل المنظمات الأوربية وبرامجها، وسنبدو وكأننا من عالمين لن يلتقيا أبداً ولا حتى في دولة المواطنة، الحلم.
في شهر أيلول من العام الماضي، عُرض علينا أن نقدم عروض مشاريع للنساء في الداخل السوري على منصة “زومال”. ما أن وصل العرض حتى بدأتُ رحلة تواصل مع من أعرف اهتمامهن بالمشاريع الصغيرة والمشاريع متناهية الصغر، من النساء الناشطات في الداخل، لتمكين النساء اقتصادياً، والمساهمة في تغيير حياتهن ومن ثم تغير مجتمعاتهن. في رحلة بحثي جاءني تسجيل على إحدى وسائل الاتصالات من صديقة لي في ريف دمشق:
“فكرتك جاءت في أوانها … هل تذكرين ح. ع؟ طالبتني قبل أشهر بأن أجد لها عملاً وإلا ستذهب الى لبنان وتنحرف! قالت أنهم عرضوا عليها العمل في مطعم في بيروت مقابل مبلغ مغرٍ… لكن كلنا نعرف أن الأمر ليس كذلك … قلت لها، سأقتلك قبل أن تذهبي!”
كان تسجيل صديقتي بمثابة الصدمة! فالصبية التي سأسميها هنا “حورية”، هي فتاة في نهاية العشرينات، ابنة عائلة كريمة، جار عليها الزمن مثل ملايين العائلات السوريات، واضطرت للخروج من مدينتها التي يتقاسمها داعش والنظام. هرب أخواها كلٌّ لسبب مختلف واختفت أخبارهما، وأما صغيرهم المطلوب من قبل جهات مختلفة، فقد خبّأته الأم بـ “رمش العين” كما تفعل الكثير من الأمهات. كان على حورية أن تصرف على والديها وأخيها طوال هذه السنوات. وبرغم حصولها على شهادة معهد متوسط، إلاّ أنّها لم تجد عملاً مستقراً، كانت بين الحين والآخر تعمل في تنظيف البيوت لدى السيدات الأرستقراطيات اللواتي انخفضت أعدادهن مع طول فترة الأزمة.
لم تنجح مشاريعنا التي قدمت لـ”زومال”، ولم نجنِ المبالغ المطلوبة، وبالتالي خسرنا حتى ما استطعنا جمعه، وهنا قصة أخرى لست بوارد الحديث عنها. كان كلّ ما تمّ الحصول عليه من قبل منظمة نسوية فرنسية، علمت مصادفة بالموضوع، هو مبلغ 600 يورو، قُدم لامرأتين في ريف القنيطرة لشراء نول للتطريز على القماش مع المواد الأولية اللازمة. لا أعرف إن كانت السيدتان سوف” تغيّران مجتمعهما”، لكن بأسوأ الأحوال، سيطعم عملهما أفواها جائعة لأطفال خسروا الآباء والبيوت. حينما قبضت المبلغ الصغير، وبعد طول جدال مع المنظمة النسويّة حول وضع النساء السوريات وحاجتهن لإقامة مشاريع تكفيهن شرّ العوز وإهانات السلل الإغاثية، مضيت وأنا ألعن العالم والمنظمات الدولية وألعننا، وأردّد جملة أمي الشهيرة، التي كانت تحبطني، ولم أتصور يوماً بأني سأرددها: “يا قلّة الحيلة … يا قلّة حيلتي”!
المنظمات النسوية السورية التي توجهت للتمكين السياسي باعتباره الأولوية، والمنظمات الدولية التي اكتفت بتقديم السلل الاغاثية، بالإضافة الى ” قلة حيلة” أصدقائي في بلاد الشتات، جعل غضبي يتفاقم إلى حد لم أعد استطيع السيطرة عليه. أكره الغضب، الغضب يوقظ فينا بريّة وتوحّشاً، قد تنسلّ من ثقوب لا وعينا وتوصلنا إلى نهايات وخيمة … أكتفي بالحزن … نعم، “احزني ما طاب لك الحزن”. فقط صوت صبية سورية جاء لينتشلني عبر رابط لصفحة، مع جملة سحرية “التمويل الجماعي”، نعم فلنتكل على أنفسنا، كلٌّ حسب استطاعته: شباب وصبايا سوريون يجمعون مبالغ قليلة تكبر بالصداقات والمعارف، وتوضع في مشاريع صغيرة وتدار بشفافية عالية وأمام الجميع، هذا أحد الحلول التي علينا التفكير بها للوصول إلى مستقبل كريم.
أعود لحورية، ماذا لو قبلت عرض العمل في مطعم لبنانيّ رفض صاحبه أن يعطي أيّ معلومات عنه؟ ماذا لو ذهبت مع صديقاتها الثلاث، اللواتي قدمنا لهن مشروعاً لمطعم صغير، ولم يتمّ قبوله على المنصة لأنه لا يتوافق مع أهداف برنامج الجهة المانحة: المساهمة في “تغيير مجتمعاتهن”؟ ماذا لو كانت حوريّة اليوم بين هؤلاء، هل كان أخوها سينسلّ من بين “رموش العين “ليقتلها؟
أخبط على رأسي وأنا أرى فيديوهات النساء السوريات الخمسِ والسبعين، المنهكات والمعذبات والمنتهكات؟
لكن صديقتي تردّ على قلة حيلتي بتسجيل جديد: “العين بصيرة واليد قصيرة، لكننا مازلنا نستطيع تقاسم لقيماتنا القليلة. تكتفي صديقتي بهذه الكلمات وتناشدنا أن نفكر بحلول بعيداً عن السلل الإغاثية والمطاعم البيروتية.
الهبوط للعالم السفلي …
في عام 1988 تعرّفت على المجتمع السفلي في سوريا. فقط في ذلك الوقت التقيت وجهاً لوجه مع من يمارسن أقدم مهنه في التاريخ.
لم نكن يومها قادمات من عالم علوي، بل من عالم سفلي موازٍ، فرع فلسطين!
أذكر عنصراً مرافقاً لنا في طريقنا من فرع فلسطين إلى سجن دوما، كان الشاب من بلدتي ويعرف عائلتي، بقي يلعنني ويشتمني طوال الطريق ويقول لي أنّي سببت الذل لأهلي. “الله لا يوفقك شو عملت بحالك وبأهلك … هاي رح تروحي تعيشي بين ال…”، كررها مراراَ طوال الطريق، وكان علي أن أسمعه وأسكت. عرفت بعد ذلك بسنوات أن النساء اللواتي يصلن إلى العالم السفلي لأي سبب، سيوشمن طويلاً بوشمه الذي سيطال عائلاتهن أيضاً من قبل مجتمعاتهن، وسيلعنهن أشخاص كثيرون، مثلما فعل العنصر الذي أعطى لنفسه الحقّ بلعني لأنه ابن مجتمعي وممثله أمامي.
فقط من خلال كلمات الشاب “الغاضب” علمت إلى أين كانوا يسوقوننا، لكني سرعان ما اكتشفت بأن عقوبة عيشنا سنوات مع “نساء الدعارة”، كانت أشرف وأرحم بكثير من العيش في العالم السفلي للفروع الأمنية، الفروع التي سيبقى الشاب طويلاً يراها عالماً علوياً.
في العالم السفلي الذي وصلنا إليه كان هناك فتيات يعملن بكامل إرادتهن وهؤلاء قلّة بين الكثيرات وتجمعهن ميزات خاصة: المرح والثقة والاهتمام بجمالهن، لكن هؤلاء أيضاً ينقسمن إلى طبقيتين: طبقة ارستقراطية، وغالباً ما تكون إقامة هؤلاء قصيرة في هذا المكان بسبب علاقاتهن بالمتنفذين، وطبقة مسحوقة من النساء الأقل جمالاً ودعماً واللواتي ستتكرر وجوههن علينا كل بضعة أشهر، هؤلاء يتعرضن لكافة أنواع الابتزاز من القضاة والمحامين وتجار الدعارة الذين يقدمون لهنّ عروضهم المشروطة لتقديم إخلاء السبيل، هنّ بلا سند من النافذين في العالم العلوي، النافذين الباطنين، الذين يتقنون فن “النفاذ” بين العالمين.
وفي العالم السفلي هناك أكثريّة دُفعت إلى هذه المهنة مرغمة، وهؤلاء هن الأكثر عدداً وقهراً ومرضاً وتعرّضاً للإدمان وللانتحار، هنّ العبدات، فمثلما أن “الدعارة” هي أقدم مهنة للنساء في التاريخ فـ”الاسترقاق” هو من أقدم مهن الرجال أيضاً.
في ذلك الوقت تعرفت على المعنى الحقيقي لـ” جريمة الشرف”، وذلك عندما سمعت أن مريم السمراء المرحة قتلت بيد أخيها، الذي خرج من السجن بعد أسابيع من ارتكاب جريمته. كان زوجها هو من يدير لها أعمالها وهو الذي يقرّر لها كلّ شيء، وكانت هي تنتهز أيامها القليلة في السجن لتشتمه وتشتم ساعة معرفتها به. لكن سرعان ما قرّرت مريم أن تشمّ هواء العالم العلوي، فأفشى الزوج سرّها لأخيها، الذي ربما ارتأى أن قتل المرأة أهون بكثير من طلاقها.
العالمان حين يلتقيان …
في العودة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، يبدو أن تزامن اكتشاف الشبكة الإجرامية لاسترقاق النساء السوريات في بيروت ونجاتهن بالصدفة، مع الضجّة الإعلامية حول بيان المجلس النسائي الاستشاري، ليس مصادفة، هو الالتقاء اللحظي لعالمين علويّ وسفليّ يتبادلان المواقع. العالم الذي تمثّله النخبة، النساء البيضاوات المدعومات من منظمات أوربية، والتي تشترط العمل مع نساء قادرات على “تغيير مجتمعاتهن”، المفروضات من قبل المجتمع الدولي على القوى السياسية، التي قبلت مرغمة وجودهن، لكنها استمرت في تنميطهن في خانة “الاكسسوار”، والعالم السفلي، المغيّب والمهمش والمستعبد، والمهدد بقطع اللسان عند أيّة محاولة للكلام. هؤلاء لم يسمعن بالمنظمات النسويّة التي انصبّ تركيزها على التمكين السياسي للمرأة متجاهلة حاجات النساء الاقتصادية لتعشن بكرامة، تمكنهن من المشاركة والمساهمة مستقبلاً في “تغيير مجتمعاتهن”.
هذا اللقاء المؤقت بين العالمين، شكّل صفعة لحواسنا ولمنظومة أفكارنا، وكأنه نتيجة طبيعية لأخذنا بدون أن ندري إلى هذا المكان، حيث نحن شعبان، وكلّ شعب يتكوّن في الوقت نفسه من طبقتين، تماماً مثل طبقات “عالم الدعارة”، عالم سفلي يتشابه فيه المهمشون والمهمشات، بأنهم ومنذ سنوات مسجونون ومستعبدون من قبل تجار البشر، يخضعونهم لشتّى أنواع التعذيب والإذلال، فالمكان الذي سجنت فيه النساء لا يختلف وقد يكون أرحم من أقبية النظام أو سجون داعش. والعالم العلويّ هو عالم البيانات وعالم الاستشاريات والنخبة، عالم الارستقراطية الموشومة أبداً بوشم العالم العلوي.
لن يكفّ العالم السفلي عن تبادل المواقع كلّ حين مع العالم العلوي، لكنهما لن يلتقيا إلا في اللحظة الحاسمة، اللحظة الصفعة، لحظة سيتمّ تغليفها فيما بعد بمئات الأكاذيب والبيانات والحجج والمبررات وسننسى.
خمس وسبعون امرأة، وربما الآلاف غيرهن ممن وشمهن حظهن العاثر بوشم العالم السفلي الذي سيطفو مؤقتاً ليشم هواءً حراً، بعد سنوات طويلة من هواء العبودية، لكنه لن يبقى كثيراً على السطح، فالكل سيجتمعون على تجاهله وإعادة طمره، كلّ لسبب مختلف: كرامة المجتمع، عرضنا وسمعة النساء السوريات، والبعض سيبادر لتوبيخهن: “الله لا يوفقكن … جبتوا العار لأهلكن … للأبد …”، وسيكون عليهن أن يواجهن وحيدات، خيارات قليلة، أقساها مرّ.
سيعود العالمان ليبتعدا بعد أن التقيا، وسيبتعدان أكثر فأكثر، ثم ستأتي لحظة أخرى، سيتبادلان فيها المواقع مؤقتاً من جديد، ومعهما سينقسم المجتمع الذي “سنغيّره” بفضل المنظمات الأوربية وبرامجها، وسنبدو وكأننا من عالمين لن يلتقيا أبداً ولا حتى في دولة المواطنة، الحلم.
خاص “شبكة المرأة السورية”