رفيق شامي اسم معروف لروائي عربي يقيم في ألمانيا منذ أكثر من ربع قرن، توزع كتبه مئات الآلاف من النسخ، ونال كل الجوائز الممكنة رغم أن الكثير من العرب لا يعرفونه.
هجر الكيمياء والفيزياء التي درسهما في دمشق، كما هجر دمشق نفسها، التي أحبها، وهاجر هجرتين: الأولى على خارطة الأرض، والثانية على خارطة الإبداع الذي يكتبه باللغة الألمانية منذ تفرغ للأدب في العام 1982.
هذا الاسم الذي ارتضاه لنفسه كـ “اسم حركي”، فرضته ظروف الطغيان والتكوين السياسي والنفسي – حسب قوله -، فـ “رفيق” مستوحاة من أفكار النضال الاشتراكي، و”شامي” نسبةً إلى الأرض التي هجرها الروائي “سهيل فاضل” مضطراً قبل 30 عاماً.
الروائي المهاجر، الذي أقامت ميونخ احتفالية كبيرة له مؤخراً لبلوغه الـ 70 من العمر، وصاحب الروايات الأكثر مبيعاً في ألمانيا – وأحدثها “صوفيا” – تشبث بالكتابة كسلاح مقاومة ضد فقدان ذاكرة الوطن، كما فتح خزينة الذكريات لـ “هافنغتون بوست عربي”، ليروي كيف هاجر؟ ولماذا؟ وكيف تطورت الأحداث، في حبكة واقعية لا تقل إثارة عن عالم الخيال.
لماذا هجر سوريا؟
يقول الشامي “هاجرت لثلاثة أسباب؛ أولاً عندما أدركت أن الديكتاتورية لا تترك مجالاً لِطَيف المواقف والمعاني، فهي تعمل بالأسود والأبيض فقط، والويل لمن لا يكون معها. الديكتاتورية مسؤولة وحدها عن انهيار الثقافة العربية وعقمها، بحيث لم يعد لها دور يذكر على المسرح الثقافي العالمي.
ثانياً؛ أكره منذ صغري العسكر، وعندما وعيت أن الجيش ليس جيشاً وطنياً إلا في أغانينا السخيفة، إنما هو أداة اضطهاد، قررت ألا أحمل السلاح وألا أخدم أي جيش”.
وثالثاً، “أدى انهيار علاقة حب جميلة بسبب سيطرة العشيرة، كحافز أخير أن أغادر البلد لعلي أستطيع العيش بحرية وبدون العسكر وحزب البعث والعشيرة”.
اسم مستعار
الروائي المهاجر الذي يقول إنه لم يمضِ يوماً في حياته دون شوق لدمشق ولحارته الشعبية “العبارة” وأهلها الطيبين، وكذلك قرية أهله الآرامية “معلولا”، يجيبني عن سؤال حول اسمه الأصلي “سهيل فاضل”، لماذا غيره؟.
فيقول، “في بداياتي كتبت بعض قصصي ومقالاتي الساخرة تحت اسم مستعار لكي لا تصاب عائلتي بأذى، وكان ذلك قبل انقلاب الأسد (في العام 1970)، فنحن في سوريا لم نخرج من قوقعة الديكتاتورية إلا لبضع سنوات في الخمسينيات. الجديد في ديكتاتورية الأسد أنه صهر الديكتاتورية العسكرية بالعشيرة فخرج منهما كائناً متوحشاً افترس الأخضر واليابس. وقد قررت أن أسمي نفسي رفيق شامي لأنه الأقرب إليّ شخصياً ولم أحس معه بغربة مثل لو انتحلت اسم جوزيف مطر، أو جورج أو نبيل أو ما شابه. فأنا كنت اشتراكي الميول (رفيق) وشامي الحنين والانتماء”.
أوان الهجرة للإبداع
نُشِرَت في دمشق أولى قصصه بعمر 15 سنة، ثم أسس مجلة حائط تسمى “المُنطَلَق” بعمر 18 سنة. وخاض في دمشق كلا المجالين: دراسة الكيمياء والفيزياء وكتابة القصص والمقالات، إلى أن أنهى في ألمانيا أطروحة الدكتوراة في العام 1979، وحصل على وظيفة رفيعة في شركة للأدوية تطلبت جهداً يومياً، وأجبرته على أن يصير الأدب هواية عطلة نهاية الأسبوع.
فقط عندما شكا الجسد، وأصر الطبيب على جعله يختار، وأقنعه بمثل يشبه حكمة سورية شائعة، “لا يمكن حمل بطيختين بيد واحدة”، حينها قرر أن يغامر، فاستقال من الوظيفة وتفرغ للأدب منذ مطلع العام 1982.
العلاقة بـ “ماركيز”!
ولدى سؤاله عن مشروعه الأدبي – خاصة في روايته الطويلة “الجانب المظلم من الحب” -، فهل نحن إزاء صيغة عربية لـ “مائة عام من العزلة” للروائي العالمي من أصل كولومبي غابرييل غارثيا ماركيز؟
أجاب الشامي، “هذه مسألة حساسة جداً تحتاج لبحث أكاديمي، فقد أحببت وأنا صغير فن الرواية الشفهي، وعندما وعيت، وكنت آنذاك أجيد الفرنسية وأقرأ الروايات باللغتين، عجبت لجمال الروايات العالمية وسخف العربية. وفي فترة نضوجي (الستينيات) صارت السخرية من كل تراثنا الشفهي موضة، وازداد عدد الروائيين الذين يقلدون همنغواي، تولستوي، بلزاك، كافكا.. إلخ، وهنا اكتشفت سر سخف الروايات العربية؛ وهو أنها تقليد لروايات غربية صيغت في مجتمعها الذي أنتجها. لقد رحل المستعمر لكن ذهن وعقل كثير من كتابنا ظل مستعمراً أو بقي يراوح في مكانه كظل نحيل لروايات الدول الاشتراكية الستالينية، وهات يا شتائم على تراثنا. فقررت لذلك أن أبحث عن مكونات الرواية الشفهية وألا أقلد أحداً”.
وعن روايته “الوجه المظلم للحب”، يقول “انشغلت بهذه الرواية أكثر من 30 عاماً وابتكرت لها شكلاً عبارة عن فسيفساء من 304 قصص تبني معاً لوحة كبيرة عن 110 سنوات سورية وعشيرتين متناحرتين حتى الموت. ومحتواها هو الحب الممنوع والمرافق للطغيان. فالرواية ليست سياسية بمعنى التحريض، بل هي رواية مشوقة وقصة حب عنيف يفضح الخلفية المرضية لمجتمعنا”.
وقت الثورات.. لا رواية
السياسة كانت حاضرةً بقوة في رواية “صوفيا” التي تعالج قضية اللاجئين، الأمر الذي علق عليه الأديب السوري بالقول إن “لرواية صوفيا حكاية لا بد من المرور عليها؛ حيث رفضت كل دعوات الأصدقاء لكتابة رواية الثورة السورية، فروايات الثورات سخيفة على الأغلب، وتمجد الأبطال كآلهة، وتحقر الأعداء بشكل يقارب العنصرية. فلم أقرأ رواية ثورة واحدة مقنعة. الثورات ساعة الصحفيين وليس الروائيين، فالروائي يحتاج لوقت لا تمهله الثورة إياه”.
وأضاف، “ورواية صوفيا تعالج الفترة الواقعة قبل الانتفاضة وهو زمن سخي لكل راوٍ. فيه تبدأ الأرض بالاهتزاز وتبرز أولى شقوق الصرح الذي بناه الديكتاتور خلال 40 سنة. فيه تتحول البديهيات إلى مسألة تستحق النقد، وفي هذا الوقت غزارة للتحولات الاجتماعية والنفسية التي تعنيني كروائي”.
وواصل، “موضوع صوفيا هو استحالة العودة. وبدأت بكتابة الرواية عام 2008 لأنني واجهت عروضاً قدمت لي بالعودة وتضمنت ابتزازاً لم أستطع قبوله ووصلت في نهاية 2009 لقناعة أني لن أعود عما قريب. في هذه الفترة ازداد حنيني لدمشق وبدأت بكتابة ملاحظات عما أعانيه من شوق وخوف”.
هجرتان.. وأزمة مُركّبة
وحول رؤية المهاجر القديم رفيق الشامي لمسألة اللاجئين السوريين في أوروبا، قال “أولاً كإنسان وثانياً كسوري وثالثاً ككاتب أرى أن اللجوء هو دفاع عن البقاء. ليس هناك أي إنسان عاقل يغادر بيئته، حتى ولو كانت كوخاً فقيراً، ما دام من الممكن العيش فيه بأمان. لكن إذا امتلأت السماء بالقنابل والصواريخ والأرض بسيوف المجرمين من داعش وأمثالها. وشحت الموارد وباتت لقمة الخبز شيء عجائبي، فلا بد لكل إنسان عاقل أن يهرب. ومع هذا فإنقاذ الحياة لا يعني الحل للمنطقة”.
وأضاف، “أزمة سوريا تزداد تعقيداً من يوم لآخر. لذلك ليس هناك أي حل بسيط إلا في العقول المسطحة. برأيي لا يمكن للسوريين بعد كل هذا الخراب والدم والعدد الهائل من اللاعبين على الأرض السورية التي تحولت لساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية ماضية وحاضرة ومستقبلية، لا يمكنهم الخروج من دائرة الشيطان هذه إلا بمساعدة جدية من المجتمع الدولي، يتكاتف فيه الجميع على هزيمة ومحاكمة كل المجرمين، وبمفاوضات جدية لا تستثنى منها أية دولة لها شأن في الصراع السوري، تنتج عبره حكومة انتقالية مسنودة من المجتمع الدولي لفترة لا تقل عن عشر سنوات، لكي نبني البلد ونزيل رماد الكراهية والثأر في أنفسنا ونتعلم من جديد قيم التسامح. فبدون تسامح وشيء من النسيان لا يمكننا بناء دولة ديمقراطية”.
“ولتتمكن هذه الحكومة من القيام بمهامها يجب البدء دون عشيرة الأسد وحل كل أجهزة الأمن، وإلا سيكون أي حل تمديد لمأساة الشعب السوري. ويجب أن تمثل الحكومة الانتقالية كل أطياف الشعب ومكوناته الإثنية والدينية والسياسية (على العكس تماماً من خطة أميركا في العراق والتي أدت لخرابه)، ودون تدخل دول الخليج في صياغة السياسة السورية”.
انتفاضة لا ثورة
وحين سؤاله: لماذا تصر على وصف ما حدث في سوريا بأنه انتفاضة وليس ثورة؟ ما هو تعريفك للثورة، وكيف ترى الربيع العربي كله؟
أجاب الشامي، “نحن العرب صرنا محترفي كلام. لا نعجز عن الابتكار لتمويه هزائمنا. صمود، تحدٍّ، مقاومة، ممانعة، مقاطعة. نسمي الانقلابات ثورة، والسفاحين الذين ركعوا أمام دولة صغيرة كإسرائيل نسميهم أبطالاً. هناك عدد ضئيل جداً على مستوى العالم بأسره من الثورات منها مثلا الثورة الفرنسية والروسية والصينية والكوبية”.
وأوضح، “الثورات تتميز بتنظيم مركزي متين لعدد قليل من المحترفين الأذكياء والمغامرين الذين يرون أن لحظة تاريخية ما صارت مناسبة، فينقضون بتنظيم شديد على نظام مهترئ. وقد ينجحوا أو يفشلوا. هذا التنظيم شديد الانضباط (الحزب، الفصيل، القوة المسلحة.. إلخ) إذا تم له النجاح يحول هذه الفئة إلى نخبة متعالية تقوض أهداف الثورة وتقلبها إلى عكسها، وتحول الحلم بالحرية والعدالة إلى كابوس ديكتاتورية فتية قوية ومنظمة. هكذا انتهت الثورة الفرنسية وهكذا أدت تضحيات الشعب الروسي والصيني إلى ماوتسي تونغ وستالين، الذي أتى من أصول متواضعة ليصبح إلها يصلي له ملايين الفقراء. وهكذا كوبا أيضاً. الثورة هناك أطاحت بالديكتاتور المهترئ باتيستا الذي حول كوبا لماخور للأميركيين. وما الذي أنتجته الثورة؟ نظاماً حديدياً عديم الرحمة تسيطر عليه عائلة كاسترو الغنية. وهل هي مصادفة أن عائلة كاسترو وقفت حتى آخر يوم مع صدام حسين وتقف اليوم مع الأسد؟”.
واستدرك، “أما الانتفاضة فهي صرخة تاريخية عفوية ضد ظلم طاغية سواء كان مستعمراً أم من ذات الوطن. وهي على الأغلب صادقة في بدايتها وتوجهها نحو الكرامة والحرية والديمقراطية والاستقلال والعدالة..إلخ، لكن موطن ضعفها أنها غير منظمة ولا تحمل مشروعاً واضحاً لما بعد سقوط الديكتاتور. والمثال هنا الانتفاضات العربية”.
العرب والآخر
ولدى سؤاله عن موقفه من أزمة اللاجئين كسوري وكألماني، قال “اللاجئون السوريون وصمة عار على النظام الأسدي وعلى المجرمين من داعش إلى حزب الله ومروراً بكل الجهاديين الذين يخربون سوريا. وهم بالوقت ذاته وصمة عار على جبين مليارديرية الخليج الذين لم يقدموا مساعدة تذكر لحماية اللاجئين لا في بلادهم ولا في الدول المحيطة بسوريا. والألمان تصرفوا بشكل لا يجاريه كرم وحب للإنسان. طبعاً هناك نازيون وشوفينيون وأعداء للإسلام لكن الدولة الديمقراطية تسعى رغم كل الصعاب أن تساعد”.
أما عن رؤيته لمسيحيي الشرق، فأجاب “إن هذا ما علينا جميعاً مراعاته والاهتمام به بسرعة. وهو التأكيد على أن بلادنا العربية هي أيضاً موطن للمسيحيين منذ آلاف السنين. والشرق سيكون أقل ألواناً فيما لو اختفت الأقليات فيه نتيجة إجرام السلفيين ولامبالاة الليبراليين. وأنا لا ألوم أي مسيحي، رغم يقيني بأن وعيه السياسي منخفض، أن يحلم بالعودة لنظام صدام حسين ومبارك والأسد الذين وفروا له على الأقل حماية ما”.
“عندما بكيت”..
أخيراً، قال الشامي إنه يمكن للمثقف أو الكاتب الروائي أن يفعل الكثير إزاء قضايا وطنه، “فهناك قول دقيق للمسرحي السوري العظيم سعد الله ونوس: إننا محكومون بالأمل، والمثقف هو من أول المحكومين. المثقف -كما أفهمه – وظيفته التاريخية ألا يفقد الضوء في أكثر اللحظات ظلاماً وإلا فإنه لا يستحق لقب المثقف. ليس من مهمتنا التحريض ولا التطبيل لهذا الفصيل أو ذاك، وإنما الالتصاق بالشعب محرك التاريخ والدفاع عنه حتى ولو أدى ذلك لخسارة شخصية كالعزلة أو تلقي الشتائم. أنا لا أعاني من أي عزلة رغم جدار الصمت الذي لا يزال يحيط أعمالي في البلدان العربية. ولا تهمني الشتائم بالقدر الذي تفرحني نظرة طفل سوري لاجئ عندما قال له والده في مدينة ألمانية بعد محاضرة لي بطيبة قلب كبيرة: هذا هو رفيق شامي الذي يدافع عنا يا بابا. بكيت تأثراً وفرحاً ولن أنسى ما دمت حياً نظرة ذلك الطفل”
هافينغتون بوست عربي – مها شهبه