في شوارع دمشق التي مزقتها الحرب، يزدهر الأمل من جديد. ترفرف الأعلام التركية في معرض دمشق الدولي للبناء، وترتفع من بين الأنقاض؛ ولعبت شركتا كاليون وجنكيز وغيرهما من الشركات التركية دورا قياديا في إعادة إعمار سوريا من خلال صفقات في مجال الطاقة والبنية التحتية بقيمة 7 مليارات دولار. ورغم أن زيارة الرئيس المؤقت أحمد الشرع إلى إسطنبول في 27 مايو/أيار 2025 وضعت الأساس الدبلوماسي لهذه العملية، فإن هذه الخطوة الاستراتيجية التي اتخذتها تركيا ليست فرصة اقتصادية فحسب، بل هي أيضاً فرصة لتشكيل مستقبل الشرق الأوسط. إذن، إلى أين ستأخذ هذه الخطوة تركيا؟ هل يتحول رهان بقيمة 7 مليارات دولار إلى إرث إقليمي؟
أظهر الاقتصاد التركي أداءً “معتدلًا” مع نمو بنسبة 2٪ في الربع الأول من عام 2025. وكما أشار وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك، مع استمرار عملية انكماش التضخم، انخفضت الودائع المحمية بالعملة إلى 18.8 مليار دولار وانخفضت الودائع بالعملة الأجنبية بمقدار 1.34 مليار دولار. في المقابل، أظهرت بورصة إسطنبول صورة هشة، حيث هبطت إلى 9,161.46 نقطة. وفي هذه البيئة، قد تكون إعادة إعمار سوريا بمثابة منقذ للاقتصاد التركي. ويحتل قطاع المقاولات التركي المرتبة الثانية عالميًّا بحجم مشاريع يصل إلى 482 مليار دولار. يمكن أن تؤدي الصفقات التي تبلغ قيمتها 7 مليارات دولار في سوريا إلى تعزيز صادرات تركيا وخفض معدل البطالة (8.6٪، مارس 2025)، مع مشاريع تتراوح من محطات الطاقة إلى الطرق السريعة والمستشفيات والمدارس. على سبيل المثال، يمكن لمشاريع الطاقة وحدها أن تخلق شبكة إقليمية من شأنها أن تقلل من اعتماد تركيا على واردات الطاقة، والتي ستبلغ 12.3 مليار دولار في عام 2024.
ولكن هذه الخطوة لا تقتصر على معادلة اقتصادية فحسب. إن إعادة إعمار سوريا هي لعبة شطرنج تلعبها تركيا في السياسة الخارجية. أدى رفع العقوبات عن سوريا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في 25 أيار (مايو) إلى إعادة فتح دمشق على الاقتصاد العالمي. وكانت تركيا أول من اغتنم هذه الفرصة. إن وعد الرئيس الشرع بإنشاء “مناطق آمنة” لعودة اللاجئين في إسطنبول هو بصيص أمل لمستقبل 2.9 مليون لاجئ سوري في تركيا. وبحسب بيانات عام 2024، أنفقت تركيا 40 مليار دولار على اللاجئين؛ ويمكن أن تخفف العوائد هذا العبء. لكن عدم الاستقرار السياسي والمخاطر الأمنية في سوريا تهدد هذه الخطة. على سبيل المثال، قد يؤدي الصراع المنخفض الشدة المستمر في حلب إلى تعطيل مشاريع البناء.
وفي السياق العالمي، يشمل دور تركيا في سوريا أيضًا المنافسة مع جهات فاعلة مثل روسيا وإيران. وفي عالم تقوم فيه شركة غازبروم بشحن 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى الصين، فإن مشاريع الطاقة في سوريا تشكل خطوة استراتيجية نحو جعل تركيا مركزًا إقليميًّا للطاقة. لكن النفوذ التاريخي لإيران في دمشق والقوة المالية لدول الخليج تشكلان منافسين لتركيا. وعلاوة على ذلك، فإن الصندوق الذي تبلغ قيمته 2.1 مليار يورو والذي خصصه الاتحاد الأوروبي للمساعدات لسوريا يظهر أن الشركات الغربية سوف تدخل السباق أيضاً للحصول على حصة من الكعكة. ويعتمد صعود تركيا إلى الصدارة في هذه المنافسة على الشفافية وجودة المشروع. إن مزاعم الفساد أو المشاريع الرديئة قد تضر بسمعة الشركات التركية على المستوى العالمي.
وتشكل القصص الإنسانية جوهر هذه الصورة الاقتصادية والسياسية. هل يستطيع طفل سوري يدرس في مدرسة بناها مقاول تركي في دمشق أن يتجاوز صدمة الحرب؟ هل تستطيع شبكة الكهرباء التي يملكها مهندس تركي في حلب تدفئة منزل عائلة؟ لا يتم بناء هذه المشاريع بالخرسانة فقط، بل بالأمل أيضًا. إن التعاون بين الشركات التركية والسكان المحليين من شأنه أن يبني الجسور بين البلدين. ومع ذلك، فإن تشغيل العمال السوريين وسياسات الأجور العادلة سوف تحدد مدى القبول الاجتماعي لهذه العملية.
هل تكتب تركيا إرثها الإقليمي بينما تبني سوريا؟ وتُعد الصفقات التي تبلغ قيمتها 7 مليارات دولار مجرد بداية اقتصادية. إن النجاح ممكن في ظل حكم شفاف، وسوريا آمنة، وعلاقات متوازنة مع الغرب. تمثل الأعلام التركية التي ترفرف في المعرض بدمشق الأمل: فسوريا التي شفيت جراح الحرب يمكن أن تولد من جديد تحت القيادة التركية. ولكن في هذا الطريق، يجب وضع كل لبنة بعناية. فهل تتمكن تركيا من تحويل هذه الفرصة إلى إرث؟ الجواب موجود في شوارع دمشق، في المستقبل الذي ستبنيه الأيدي التركية والسورية معًا.