في أوج الثورة الجزائرية على الاستعمار الفرنسي في عام 1957م التقى رئيس وزراء تركيا عدنان مندريس (رحمه الله) برئيس الوزراء الليبي مصطفى أحمد بن حليم في مدينة الجهاد (درنة). وطلب مصطفى بن حليم من مندريس مساعدة الثورة في الجزائر بالمال والسلاح، فوافق مندريس على تزويد الثورة الجزائرية بالسلاح تحت غطاء المساعدات العسكرية للجيش الليبي لأخذ الحيطة من احتمالية انكشاف الأمر للغرب خاصة وأن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وما يترتب على ذلك من أزمة لا تتحملها تركيا قد تؤثر على مسيرة برنامجه الإصلاحي لإرجاع تركيا لهويتها الإسلامية، وبعد تلك السنة ومع هذه المساعدات التركية الليبية تطور أداء الثورة الجزائرية لتحرر الجزائر عام 1962م.
وبشكل تفصيلي، كانت سياسة تركيا الرسمية سياسة منكرة بالنسبة للثورة الجزائرية، بينما كان الشعب التركي المجاهد (العملاق) يقف موقف المؤيد الصلب للثورة الجزائرية، يؤازرها في صحفه ومنشوراته وفي منتدياته، وكانت حكومة عدنان مندريس تصادم الثورة الجزائرية وتدلي بصوتها في هيئة الأمم المتحدة إلى جانب فرنسا أو تحاول أن تقف موقفاً حيادياً، هو لفائدة فرنسا أولاً وأخيراً، وجاء اليوم المحدد وحل ركب عدنان في ليبيا، فرأوا المطار خالياً من الناس تماماً، وركبوا السيارات فلم يكن في الطرقات أحد، أي أحد، كانت المدينة خالية بصفة مطلقة لا ترى فيها رجلاً ولا امرأة ولا شيخاً ولا صبياً، هكذا دفعت نخوة وشهامة الليبيين في طرابلس لإعلان غضبهم على تركيا، واستنكاراً لسياستها تجاه الجزائر (المجاهدة)، فأغلقوا قاطبة أبواب ديارهم وحوانيت تجارتهم، وأضربوا عن العمل الإداري في دواوين الحكومة.
فكاد عدنان مندريس ومن معه يصعقون، وقال لمن حوله من الرسميين: أهكذا يُقابل الليبيون وفد الحكومة التركية، ونحن أصدقاؤكم وإخوانكم منذ قرون، وسالت دماؤنا معاً في شتى المعارك الإسلامية، ونصرناكم في كل أزمة حلت بكم، فما هي هذه المقاطعة الشعبية، وما هي أسبابها العميقة؟ قال له رئيس الحكومة مصطفى بن حليم: نحن أيضاً لا علم لنا بهذا، ولم نشعر بوجود هذا الإضراب الشعبي إلا هذه الساعة، أما الأسباب فهي بلا شك ولا ريب، موقفكم من الثورة الجزائرية وانتصاركم لفرنسا على الجزائريين، وهم يخوضون معركة الحياة والموت ويقومون بجهاد قاس مرير من أجل استرجاع حريتهم السليبة، واستقلالهم الضائع، وكرامتهم التي امتهنت شر امتهان.
وقال مصطفى بن حليم للأستاذ أحمد توفيق المدني: “ما كدت أقول له هذا حتى غصّ بريقه، واختلجت عضلات وجهه”، وقال بصوت متهدج: “إنكم لا تفهمون ولا يفهم إخواننا الجزائريون حقيقة موقفنا اليوم، نحن عاطفياً وقلبياً مع الجزائر في نضالها الحر الشريف، لكننا من جهة أخرى لنا ارتباطات مع فرنسا، ولنا في الوقت الحاضر مصالح اقتصادية كثيرة معها، وهي تعيننا فلا نستطيع أن نتنكر لها جهاراً”.
قال مصطفى بن حليم: فأجبته: “إذن تستطيعون أن تتنكروا لمبادئكم ولضمائركم ولعواطف شعبكم ولا تستطيعون أن تتنكروا لمصالحكم الاقتصادية؟”.
قال لي: “إن كل شيء يمكن تقويمه وإصلاحه في عالم السياسة، فما هو برأيكم العمل الذي يرضي إخواننا الجزائريين والليبيين ويصلح الموقف معهم؟”.
قلت: “ومع كل العرب كافة، لأن العرب كافة من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب قد أعلنوا تضامنهم الفعال مع الثورة الجزائرية، فكل عمل ضد الجزائر إنما هو في الحقيقة ضد العرب عموماً، وأما ما يجب عمله فسأخبرك به غداً، بعد استشارة جبهة التحرير وهم الآن هنا”.
وكان الأستاذ أحمد توفيق المدني متواجداً في ليبيا، فقال لمصطفى بن حليم: “لا نريد من تركيا إلا أمرين لا ثالث لهما: أن تقلع عن إعانة فرنسا ضد الجزائر، وأن تنصر كغيرها مبادئ العدل والإنصاف، وأن ترسل للجزائر مدداً من الأسلحة الحديثة الموجودة لديها، وبذلك نطوي صفحة الحاضر ونفتح صفحة جديدة تصل المستقبل بالماضي”.
قال له مصطفى بن حليم هذا، فأجابه: “أما تغيير مسلكنا السياسي، فسنقوم به تدريجياً حتى نلتقي بعد حين مع إخواننا الجزائريين والعرب في موقف واحد، وأما السلاح فنحن مستعدون لإمداد إخواننا الجزائريين بنصيب وافر منه، وإنما كيف السبيل لإيصاله؟”
قال له ابن حليم: “أرسلوه هدية من الشعب التركي إلى الشعب الليبي، ونحن نسلمه للجزائريين”.
قال مندريس: “اتفقنا، إنما الأمر موكول بمصادقة رئيس الجمهورية جلال بايار، وسأخبرك بصفة سرية عندما تتم هذه المصادقة”.
وأخبرت الحكومة الليبية الملك السنوسي إدريس بهذا، فقال لعدنان أثناء استقباله له: أنا مسرور جداً بوعدكم الذي قطعتموه للحكومة بإعانة الجزائر المجاهدة، وأرجو أن يتحقق الوعد قريباً، فأبلغوا رجائي هذا للسيد الرئيس جلال بايار، كان عدنان مندريس يخشى عواقب اكتشاف أية شبهة بأن تركيا تمد الثورة الجزائرية بأي عون مادي، وكرر عدة مرات بأن هذا سبب طرد تركيا من حلف الأطلسي، وهو الركيزة الرئيسية التي يرتكز عليها دفاع تركيا في مواجهة الخطر الروسي العظيم.
وكان ابن حليم يشعر بأن مخاوف عدنان مندريس حقيقية، فهدّأ من روعه وقال له: إن الثورة الجزائرية في أشد الحاجة إلى أنواع كثيرة من الأسلحة الحديثة وهذه الأسلحة متوفرة لديكم، فإذا أعطيتكم كشفاً مفصلاً بهذه الأسلحة وأهديتموه أنتم إلى شقيقتكم ليبيا، فليس في هذا ما يثير أي شك أو ريب لدى فرنسا، وقال بن حليم لعدنان مندريس: “إن الليبيين سوف يقومون بتسريب السلاح إلى الإخوان الجزائريين تدريجياً”، ووعده بأن لا يُعلم هذا السر للقيادة الجزائرية العليا، بل عدد قليل من أفراد تلك القيادة العليا.
وواصل ابن حليم حديثه مع ضيفه رئيس وزراء تركيا عدنان مندريس، واستعرض له ماضي تركيا الإسلامي وتاريخها في الذود عن الإسلام، وإعلاء كلمته، ومزج السياسة بالعاطفة الدينية، إلى أن قال عدنان مندريس: “سنقدم لكم هدية السلاح، وأرجو الله أن يوفقكم في إيصالها لأولئك الذين يحتاجونها في الدفاع عن دينهم، أما نحن في تركيا فإننا نقدم الهدية لجيش الشقيقة فقط”. وشدد مندريس على المحافظة على السرية المطلقة. وبعد أسابيع قليلة وصلت هدية السلاح التركي، واستلمها الجيش الليبي في احتفال عسكري، ثم بدأ تسريبها تدريجياً إلى الحركة الوطنية والثوار في الجزائر، فكان السند التركي أحد الأسباب في تحرير الجزائر عام 1962م.
المراجع:
1.أحمد توفيق المدني، حياة كفاح، ج3، ص 517.
2. سيف الهاجري، الثورة الجزائرية والانقلاب على عدنان مندريس والملك إدريس!!، منتدى العلماء، 23/ 7/ 2018، رابط: http://bit.ly/2tKrBOK
3. علي محمد الصلابي، كفاح الشعب الجزائري: من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي، دار ابن كثير، بيروت، ط1 2017، ج3، ص. ص 411 – 413.
4.مصطفى عبد الحليم، صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي: مذكرات رئيس الوزراء الليبي الأسبق، 1992، ص. ص 361 – 363.
الكاتب: د.علي الصلابي
نقلا عن: مدونات الجزيرة