جاء إعلان الولايات المتحدة عن نيتها إرسال قوات برية إلى سوريا خارج كل سياقات التهدئة والتسويات التي كثر الحديث عنها مؤخرا. وقد رفضت روسيا التصعيد الأميركي المفاجئ، باعتبار أن دخول أيّ قوات أميركية إلى سوريا دون طلب رسمي من الشرعية، سيكون انتهاكا للقانون الدولي.
وعكست هذا الرفض فالنتينا ماتفيينكو، رئيسة مجلس الاتحاد الروسي، وهو المجلس الأعلى للبرلمان حين اعتبرت أن هذا التدخل لا يجوز، وأن الولايات المتحدة ستنتهك القانون الدولي لو أقدمت على هذه الخطوة دون موافقة الأمم المتحدة والحكومة السورية.
تزامن هذا التصعيد مع إعلان وزير الخارجية السعودي عن قرب انتهاء الأزمة اليمنية، ومع تصريحات أميركية تفيد بأن الأسد يتقدّم والمعارضة تتراجع وهو ما لا تؤكده الوقائع الميدانية على الأرض؛ بل إن هذا السياق الأخير يؤكد أن واشنطن تحاول تضخيم فعالية الدور الروسي في سوريا، وقدرته على قلب التوازنات التي ترعاها والتي حرصت على عدم المسّ بها، كمقدمة لتدخل أميركي مباشر في سوريا.
فعاليات مؤتمر فيينا، انطلق في هذه الأجواء، وقد دعيت إليه إيران للمرة الأولى بعد رفض أميركي وسعودي لمشاركتها. وقد جاءت المشاركة الإيرانية بناء على رغبة روسية وافقت عليها الولايات المتحدة ولم تعترض عليها السعودية.
واللافت أن مؤتمر فيينا، الذي يناقش الحلول الممكنة للأزمة السورية، لم يضم أيّ ممثلين لا عن النظام السوري ولا عن المعارضة السورية، رغم أن العنوان الذي اتخذه ارتبط بالبحث في مصير الأسد ودوره، وفي إمكانية الوصول إلى حلول سياسية تتضمن فترة انتقالية مع خلاف على مدتها.
وقد شهد هذا المؤتمر تراجعا أميركيا وفرنسيا عن المواقف السابقة المتعلّقة بضرورة رحيل الأسد فور الشروع في تنفيذ مفاعيل المرحلة الانتقالية، إضافة إلى ليونة إيرانية تمثّلت في موقف يعرب عن عدم التمسك ببقاء الأسد، وبقاء السعودية على مواقفها الداعية إلى رحيل الأسد فورا.
الدخول الروسي إلى الميدان السوري كان قد تم بناء على طلب نظام الأسد. واتخذ هذا الطلب صيغة استجلاب وصاية، وخصوصا أنه جاء بعد أن وصل النظام إلى درجة من التآكل، جعلته غير قادر سوى على المفاضلة بين أنواع الوصايات المطروحة عليه. واختار الوصاية الروسية بعد أن اتضح له أن الوصاية الإيرانية لا يمكن التعايش معها بأيّ شكل من الأشكال، وأنها لن تبقي له، ولا للعلويين، أي موطئ قدم في سوريا.
روسيا كانت الخيار الإلزامي للنظام السوري، وقد حاول بوتين استغلال الأمر إلى أقصى الحدود، مستفيدا ممّا اعتبره تراخيا أميركيا أو إهمالا عن مشاكل المنطقة. واعتقد أنه يستطيع في ظل سياسة أوباما الرافضة للتدخل العسكري أن يقطف أرباحا بالجملة لمجرد إقدامه عليه.
لكن، خارطة الطريق الروسية في سوريا كانت مرسومة أميركيا، وربما عربيا، بشكل غير مدوّن في اتفاقات. والعقل الروسي خرج مباشرة عن كل الخرائط المرسومة، وحاول إعادة رسم خرائط جديدة تتلاءم وطموحاته القيصرية، التي لا تنسجم أبدا مع واقع قدراته العسكرية والمالية ووزنه السياسي في العالم.
التطور اللافت على صعيد عمل الآلة العسكرية الروسية في سوريا، تمثّل في قصف روسيا لمجموعة من الأهداف التابعة للمعارضة السورية المعتدلة في محافظة درعا الجنوبية حيث لا وجود لداعش. ويعيد هذا القصف تركيب دور روسيا في سوريا، ويحوّلها من دولة حاضنة للتسويات إلى طرف مشارك في الحرب السورية.
ويعني انتقال روسيا من دور الحكم إلى دور الطرف المشارك في محاولة تصفية البديل الشرعي المقبول أميركيا ودوليا للأسد، أن موسكو تفتح بشكل مباشر معركة مع واشنطن والمعارضة السورية بأطيافها المعتدلة، وكل الدول الداعمة لها وأبرزها السعودية.
على خلفية هذا الواقع، انفجر صراع الشرعيات بين روسيا والولايات المتحدة، ففي حين تعتبر موسكو الشرعية محصورة في نظام الأسد، تحرص الولايات المتحدة على إناطتها بالمعارضة المعتدلة، التي تعلن للمرة الأولى أنها مستعدة لدعمها بقوات برية أميركية، وهو ما يبدو مرجّحا مع إعلان البنتاغون عن وجود قوات أميركية برية في العراق ومشاركتها في عمليات محددة.
هنا يظهر التباس كبير يتعلق بطبيعة الدور الكردي المدعوم أميركيا، خصوصا بعد إعلان الأكراد عن سيطرتهم على إقليم جديد في شمال سوريا بالقرب من الحدود التركية.
المشكلة في الدور الكردي أن واشنطن تعتبر قوات الحماية الشعبية الكردية معارضة معتدلة تستحق الدعم في حين أن ارتباطها بالأسد ليس خافيا على أحد، وهي لم تفعل شيئا لدعم التيار المعارض الأبرز وهو الجيش الحر بل منعت تزويده بأسلحة متطورة، كما لم تصدر عنها أيّ ردة فعل جدية بشأن استهدافه المباشر من قبل الروس.
ولعل دعوة موسكو إلى ضم ممثلين عن الجيش الحر والمعارضة إلى محادثات فيينا تضيف تعقيدات جديدة على التعقيدات الموجودة، لأن واشنطن تضع الأكراد والجيش الحر في قائمة المعارضة المعتدلة في حين أن الطرفين لا ينظران إلى بعضهما على هذا الشكل، بل تتسم علاقتهما ببعضهما بالكثير من الشك والحذر، ما لم نقل العداء.
مفاعيل هذا الصراع تقول إن الولايات المتحدة ليست في وارد السماح لروسيا بالإمساك بالمنطقة، وإن مشاركتها البرية ستكون الحجة الرسمية لتغيير كل القواعد المرسومة سابقا، بعد أن سبقتها روسيا إلى ذلك. هكذا يمكن تصور سيناريو قريب تهاجم فيه روسيا قوات تابعة لتحالف المعارضة المعتدلة، ما ستعتبره الولايات المتحدة عدوانا مباشرا عليها. ولن يتبع الرد الأميركي المحتمل السياق البهلواني الاستعراضي الروسي لأن أميركا، وخلافا لروسيا، تمتلك أدوات رد فاعلة ومتعددة وكثيرة، لا تكون فيها مضطرة لا للدفع من جيبها الخاص، ولا للقتال بلحمها الحيّ.
من هنا يُرجح أن تعمد واشنطن إلى السماح لكل الأطراف الداعمة للمعارضة السورية بإرسال سلاح نوعي لها، يتضمن صواريخ ستينغر المضادة للطيران، التي كان عدم توفرها في أيدي المعارضة، منذ بداية الثورة ضد النظام حتى الآن هو ما منع النظام من السقوط. وأهداف هذه الصواريخ ستكون الطائرات الروسية.
كثر الحديث مؤخرا عن سيناريو أفغاني لروسيا في سوريا، ولكن يبدو أن الأمور ذاهبة إلى مسار أعنف بكثير من السيناريو الأفغاني، لأن حرب روسيا لن تكون مقتصرة على سوريا وحسب، بل يرجّح أن تنتقل إلى روسيا نفسها. الواقع المستجد فرض تحول روسيا إلى عدو رسمي للسنّة في العالم، وتاليا فإن البيئة الروسية السنيّة التي تشكل حوالي 15 بالمئة من البنية السكانية الروسية ستكون جزءا من المعركة المفتوحة ضد روسيا.
لعل أول تداعيات الموقف الأميركي على روسيا هو اضطرارها إلى إعادة النظر في علاقتها من إيران. ويعود السبب في ذلك أن المرحلة القادمة تتطلب وجودا عسكريا بشريا كثيفا لا يمكنها أن توفره وحدها.
وإيران بدورها لم تدخل الصراع السوري بكامل قوتها البشرية؛ حيث كشفت التقارير حول أعداد الإيرانيين المشاركين في الحرب السورية أن العدد لا يتجاوز الـ2000، وهو رقم ضئيل قياسا بمتطلبات الساحة السورية، ما يعني أن الثقل الفعلي للوجود الإيراني في سوريا يعتمد على ميليشيا حزب الله والميليشيات العراقية.
ويدفع التفاوض الروسي مع إيران في اتجاه إغرائها بتصعيد مشاركتها العسكرية في سوريا بشريا وماديا، إذا ما رغبت في انتزاع دور لها في المنطقة. واتفاقها النووي ومفاعيله لا يعني نهاية تدخلها في المنطقة، بل ربما سيكون دافعا لطهران لتفعيل شبكة تدخلاتها الخارجية للجم الصراعات الداخلية، والنقاشات الحادة التي من الممكن أن تتسبب بها طريقة استثمار الأموال المفرج عنها. من هنا يشكل عنوان الحرب على التكفير والإرهاب بالتحالف مع روسيا وبقبول أميركي حجة مناسبة تتيح إسكات الصوت الداخلي من ناحية، وإعادة تشكيل واقع الأزمة السورية وفق منطق جديد يضمن لها حضورا، كان الدخول الروسي قد قضى عليه.
لا يبدو أن سياق الأمور ذاهب في اتجاه الخروج بتسويات في الأفق المنظور. فواشنطن لديها فرصة كبيرة لتصيب عدة عصافير بحجر واحد، فلماذا سنتوقع أنها ستضيع هذه الفرصة؟
لا يبدو مفهوما لماذا ستفوت الولايات المتحدة فرصة إيقاع هزيمة قاسية بروسيا وإيران، والقضاء على حزب الله الذي يشارك بجلّ قدراته البشرية، حيث أن انتزاع الأدوار في المرحلة القادمة يتطلب زيادة التورط العسكري المباشر، وإرسال عدد أكبر من العناصر للمشاركة في القتال.
هكذا ستكون روسيا وإيران وحزب الله والميليشيات الشيعية في الواجهة في معركة قاسية، تقوم وفق معطيات جديدة لا تحظى فيها بتفوق جوي بعد الدخول المتوقع للصواريخ المضادة للطائرات. وهذه المعركة لا يمكن تحقيق أي انتصار فيها مهما كان حجمه دون كلفة بشرية عالية وخسائر مادية باهظة، ما سيفرض بعد فترة لا تتجاوز الستة أشهر، وهي المدة التي حددتها واشنطن كفترة انتقالية مقبولة في مؤتمر فيينا، في خروج كل هذه القوى من دائرة القدرة على التأثير المباشر تزامنا مع حرب مفتوحة ضد تنظيم داعش.
كل هذا يعني أن مسار الحلول لم يبدأ فعليا بعد، وأن دونه سلسلة من المجازر العنيفة التي ربما لن يكون ما بعدها حاملا لأيّ قيمة.
العرب اللندنية