منذ انطلاق الاحتجاجات السلمية في العراق بداية شهر أكتوبر حتى اليوم، نلحظ استمرار الجهات الأمنية في انتهاج سلوك العنف بين الحين والآخر، وفي الوقت الذي فاق فيه اعداد الضحايا عتبة 350 شهيد، فضلاً عن اكثر من 17 الف جريح بحسب منظمات رسمية وحقوقية محلية ودولية، من بينهم ما لا يقل عن 3 الاف بإعاقات دائمة، لا تزال الحكومة متمسكة بخيارات الحل ضمن اطار التوافق السياسي وآليات الدستور، في ظل انعدام ثقة المواطنين بوعودها ووعود الأطراف السياسية الفاعلة بشكل شبه مطلق، لاسيما ان هذه الوعود تصنف على انها تصلح للاستهلاك الإعلامي فحسب، دون إمكانية تطبيقها على ارض الواقع فعلياً، وما يعزز هذا الرأي هو اطلاق حزمة واسعة من الإصلاحات على شكل تعديلات دستورية وقوانين وقرارات ذات سقف زمني يمتد الى 45 يوماً منذ منتصف شهر نوفمبر.
وفي ظل المنظومة الحاكمة في العراق على المستويات التنفيذية والتشريعية والقضائية وآليات إدارة الشؤون السياسية في البلاد فإن الحد الأدنى من هذه الإصلاحات سيبقى حبراً على ورق، مما يعزز القناعة لدى المتابعين ان من يطلق هذه الوعود لا يبغي سوى كسب المزيد من الوقت سبيلاً للمماطلة في اجراء الإصلاحات الضرورية، ويفتح الباب امام احتمالات أخرى للتعامل مع هذه الاحتجاجات بنوايا غير ماسة بالامتيازات السياسية وغير راغبة في تهدئة الشارع سلمياً عبر إرضائه.
ان ارتفاع سقف المطالب يراه الكثير من المراقبين على انه سينهي نفوذ الأحزاب السياسية بشكل كامل في حده الأعلى، او انه ستحولهم الى جهات تصريف اعمال لحين ولادة مناخ سياسي جديد في الحد الأدنى، هذا المناخ الذي يصبوا لبناء عراق مستقل لا مجال فيه للتدخل بشؤونه الداخلية من أي جهة كانت – داخلية او خارجية –، وهو ما عبر عنه المحتجون بوسمهم البارز، والذي تحول الى شعار الاحتجاجات تحت عنوان (نريد وطن).
وصول الوضع السياسي إلى حالة انعدام الثقة بين الشعب والحكومة، وعجز الأخيرة التام في تلبية التطلعات الجماهيرية، يترتب عليها أن تستقيل وتفسح المجال لغيرها لحل الأزمة |
ان اية خطوة إصلاحية من قبل الحكومة والأطراف السياسية – مهما كانت جديتها – تسهم بشكل مباشر في استعار الاحتجاجات، حتى وان كانت هذه الخطوات تلامس جوهر المطالب الشعبية، مما يؤشر وجود قناعة مطلقة لدى الشارع العراقي بعدم الثقة بهذه الأطراف وفي طرح حلول للأزمة وانعدامها التام، مما يعني ان هذه الأطراف لا يمكن ان تكون جزءاً من الحل، دليل ذلك ان اية خطب رسمية او بيانات حول قرارات إصلاحية تنعكس عكسياً على الشارع في تصاعد الخطابات المناهضة وازدياد اعداد المتظاهرين، وهو ما يستدعي البحث عن ما يدور في دوائر صنع القرار العراقي، وامام هذه المتغيرات المتسارعة والمتداخلة، ينبغي التساؤل حول النوايا الحقيقية للجهات الرسمية في انهاء الاحتجاجات في العراق.
ان وصول الوضع السياسي الى حالة انعدام الثقة بين الشعب والحكومة، وعجز الأخيرة التام في تلبية التطلعات الجماهيرية، يرتب عليها ان تستقيل وتفسح المجال لغيرها لحل الازمة في أية دوله شهدت حالات مشابهة لما يحصل في العراق، ولأن الوضع العراقي لم يشهد حالة كهذه، على الرغم من الوصول الى نقطة اللا عودة، فإن ذلك يوضح بشكل لا يقبل الشك دور الدولة العميقة في التحكم بقدرات الدولة وقرارها السياسي، ومن هنا تتبين لنا احتمالات انهاء الاحتجاجات وفقاً لما تتطلبه مصلحة الدولة العميقة وما ترتبط به هذه الدولة من اطراف خارجية، وليس وفقاً لما تتطلبه المصلحة القومية العراقية.
فعلى الأرجح، ان الدولة العميقة مستمرة في سياستها باللجوء الى الحل العسكري خياراً لأنهاء الاحتجاجات، ورغم اصدار أوامر مشددة من القيادة العامة للقوات المسلحة بمنع استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين، والامتناع عن استخدام أصناف محددة من الغاز المسيل للدموع، لايزال حمام الدم مستمراً في ساحات التحرير في بغداد والمحافظات، مما يعني ان من يتحكم بخط التماس مع المتظاهرين هم عناصر الدولة العميقة وليس اطرافاً حكومية، ولنا في تصريحات الحكومة العراقية في اعلى مستوياتها ومن ابرزها ما ادلى به القائد العام للقوات المسلحة حول اختطاف اللواء ياسر عبد الجبار عميد المعهد العالي للتطوير الأمني والإداري في وزارة الداخلية، وما ادلى به وزير الدفاع حول الطرف الثالث، خير دليل على ذلك. وانطلاقاً من هذه الحقائق، وفي ظل امتداد رقعة التظاهرات واصرارها على تحقيق كامل مطالبها، مع تزايد سقف المطالب بمرور الأيام، نتساءل حول احتمالات انهاء الاحتجاجات في العراق.
ان ما تشهده ساحات التظاهر من سكون نسبي في استخدام الأسلحة بين الحين والآخر، يتأتى من سبب جوهري، هو تخفيف الضغط الإعلامي الذي بدا يأخذ ابعاداً دولية كبيرة ومتصاعدة من جهة، ولإفساح المجال امام مصادر الدولة العميقة الهادفة لاختراق المظاهرات وتشخيص الفاعلين فيها من جهة أخرى.
على الأرجح ان يندفع صقور الدولة العميقة الى خيار التصعيد، مع استمرار تمسكم بالنفوذ وعدم القدرة على تقديم أي نوع من التنازلات، وهو ما قاد الى انغلاق الحل السياسي، وامام استمرار الفعل الدولي بحجة عدم التدخل في الشؤون الداخلية والاكتفاء ببيانات الإدانة وحث الحكومة على اجراء إصلاحات من جهة، واستخدام العراق ورقة ضغط أمريكية لاستنزاف القوة والنفوذ الإيرانيين من جهة أخرى، من المحتمل كثيراً ان تندفع الدولة العميقة بتأثير نفاذ صبرها ومحاولة التخلص من الضغط المستمر لخيار ضرب المتظاهرين بالقوة، وتتصاعد ترجيحات هذا الاحتمال حتى قبل مضي مدة من الزمن على مهلة الـ 45 يوماً وتحديداً مع بداية شهر ديسمبر، خصوصاً ان مؤشرات هذا الاحتمال بدأت بالظهور في اشتباكات شارع الرشيد في بغداد، اذ وفقاً لشهود عيان ان مجاميع من المتظاهرين تندفع على خط التماس وترشق قوات مكافحة الشغب بقنابل المولوتوف لدفع الأخيرة للصدام، ومع انطلاق رد الفعل تنسحب هذه المجاميع لتترك المتظاهرين العزل امام نيران قوات الشغب، وهذا ما حصل ولا يزال نهاية الأسبوع الماضي ولا يزال يحصل حتى الآن.
واذا ما افترضنا ان الاندفاع نحو هذا السيناريو قد ينهي التواجد الفعلي في ساحة التحرير بقوة السلاح، وقد يسهم نوعاً ما في اسكات الساحات الأخرى المفتوحة في المحافظات، ولكنه سيكون سكوتاً وقتياً امام رد فعل لا يمكن التنبؤ بمستوياته، وسيفتح المجال واسعاً امام دخول اطراف مؤثرة اجتماعياً للصراع من ابرزها العشائر العربية في الفرات الأوسط والجنوب، التي قد تعتبر هذا النوع من الرد موجهاً نحو أبنائها واعلاناً رسمياً على اخضاعها للدولة العميقة خارج اطار دولة القانون. واذا ما تذكرنا – وبشهادة الحكومة العراقية – ان هذه العشائر تمتلك أسلحة صغيرة وخفيفة ومتوسطة تفوق إمكانات قيادات العمليات في المحافظات الجنوبية، فإن خيار الاعتداء على ساحة التحرير الذي ستندفع نحوه الدولة العميقة سيكون ورقة الرهان الأخيرة للحفاظ على مكتسباتها، عبر اشعال الصراع اقتناعاً منهم بقدراتهم العسكرية التي تفوق قدرات الدولة والتي تمكنهم – بحسب وجهة نظرهم – على امتلاك زمام الأمور والسيطرة بالقوة العسكرية على مفاصل الدولة كافة.
على ان الدولة العميقة ستكون قد اعدت العدة على الأرجح لمواجهة أطراف خارجية قد يكون لها دور كبير في حسم الملف السياسي في العراق تحسبا للحفاظ على نفوذها، من خلال تحييد دور الولايات المتحدة الامريكية بتهديد السفارة الامريكية ومصالحها في تكرار لسيناريو اقتحام السفارة الامريكية في طهران عام 1979، وهذا ما أعلنه صراحة بعض صقور الدولة العميقة بأن جميع دبلوماسيي ورعايا الولايات المتحدة في العراق هم رهائن مع وقف التنفيذ.
أمام تعقد المشهد واحتمالات الاندفاع نحو الصدام المسلح، يأتي دور المجتمع الدولي للإيفاء بالتزاماته في حفظ السلم والامن الدوليين ودعم العراق وشعبه، اذ ان الاكتفاء بحث حكومة مقيدة بنفوذ الدولة العميقة لا يحرك شيء في مياه المشهد السياسي الراكدة، بل ان الأمر يتطلب مستويات اعلى من التنسيق والقرارات الملزمة في تحييد سلاح الدولة العميقة وعزلها عن ممارسة التأثير على القرار السياسي، لتأخذ الإصلاحات التي يطالب بها الشعب العراقي طريقها نحو التنفيذ بعيداً عن اية تأثيرات خارجية تهدد الامن القومي للمنطقة وليس في العراق فحسب.
المصدر الجزيرة