القدس العربي – سامح المحاريق
تشكل المستوطنات ضرورة بالنسبة لدولة (إسرائيل) لأنها تحقق فكرة العيش في خطر بالنسبة للشخصية الإسرائيلية، ومع أن المستوطنات للوهلة الأولى، تبدو متناقضة مع فكرة الدولة بشكل عام، وتوحي بانفصال المستوطن عن السياق العام من حوله، إلا أن إسرائيل نفسها ليست سوى مستوطنة كبيرة في نهاية الأمر، وجزء من تشكيل إسرائيل الوجودي يعتمد على فكرة المستوطنة، التي بدأت تستوعب الهجرات الصهيونية المتواصلة، قبل تأسيس، أو حتى نضج فكرة إسرائيل.
الإسرائيلي في المستوطنة يعبر عن الشخصية المتطرفة التي تطالب بمزيد من الأمن، وتتخذ قرارها السياسي في النهاية تحت طائلة الخوف، ولذلك فوصف قطعان المستوطنين، لا يمكن أن يقتصر على جانبه البلاغي الذي يصف ممارساتهم تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بل يمتد ليمثل وصفاً سياسياً يحدد سلوكهم العام تجاه القضايا الانتخابية، فما يحركهم هو غريزة البقاء، وليس الرغبة في الحياة، كما هي الحال مع أبناء المدن، الذين يبدون مائعين سياسياً بالنسبة للمستوطنين. تغلبت عقلية المستوطنة في اسرائيل على أي تيارات سياسية أخرى، وأصبح استرضاء المستوطنين على رأس أولويات الحكومات الإسرائيلية، فمطالبهم واضحة وسهلة، وتتمثل في التخلص من الفلسطينيين ليحصلوا على فرصة التمدد والتوسع، التي ستؤدي إلى تحسين أحوالهم المعيشية والإنتاجية، ومع تدشين عملية الضم التي تعكف عليها الحكومة الإسرائيلية، وتعلنها في مرحلة بالغة الحساسية، تستغل من خلالها الظروف السائدة مع أزمة فيروس كورونا، تبدو الخيارات أمام الطرف الأكثر تضرراً من هذه العملية، وهو الأردن، محدودة ومعقدة، فالأردن في المخيلة الإسرائيلية هو المنطقة التي ستتحمل تكلفة عملية الالتهام الواسع للأراضي الفلسطينية، وأي نتائج سكانية ستترتب على معادلة الحياة الجديدة في الضفة الغربية.
من هذه النقطة تحديداً أتت تصريحات الملك عبد الله الثاني عبر صحيفة «ديرشبيغل» الألمانية، التي حفلت بتعبيرات تصعيدية، مثل صدام كبير والتهديدات والخلاف والمشاحنات، وهي المصطلحات التي لم تنطق بها دولة عربية على المستوى الرسمي منذ سنوات طويلة، وتختلف بصورة جوهرية مع التحولات الكبيرة في الخطاب الرسمي العربي تجاه إسرائيل، وتعبر أيضاً عن الفرق بين الأردن، وأي دولة عربية أخرى في التعاطي مع اسرائيل، فسنوات من الصراع تمتد حتى إلى ما قبل تأسيس دولة إسرائيل، في أوقات كانت تبحث فيها العصابات الصهيونية عن موطئ قدم شرق نهر الأردن، ثم عملية ضم الضفة الغربية، وتوطن المقاومة الفلسطينية المسلحة، والعلاقة مع الفلسطينيين في الضفة الغربية بعد حرب يونيو/حزيران 1967 وحتى فك الارتباط، كلها عوامل تجعل الأردن على إطلالة مباشرة على التفاصيل التي تختص بالعقلية الإسرائيلية، وبعد حصاد أعجف لسنوات أتبعت اتفاقية وادي عربة، تقف الأردن في موقف مغاير من إسرائيل يقوم على دراية عميقة بالنوايا الإسرائيلية، التي لا يمكن تمويهها أو مواراتها وراء مشاريع كبرى، أو تحالفات متوهمة أو معالجات درامية بائسة. في توقيت على جانب من الصعوبة تدفع الولايات المتحدة بثقلها وراء إسرائيل للحصول على صفقة القرن، في فترة زمنية وجيزة، ربما تسهم في تحسين صورة الرئيس ترامب، كرجل يستطيع أن ينفذ خططه ووعوده، وتبدو الدول العربية الحليفة للأردن عالقة في ازدحام من الأولويات يجعل مصالح الفلسطينيين بعيداً عن قائمة أولوياتها، في الوقت الذي يغرق فيه الأوروبيون في أسئلة بالغة الخصوصية، تتعلق بمستقبل الاتحاد الأوروبي، بعد الفتق الذي أحدثته جائحة كورونا شعبياً ورسمياً، وكل هذه العوامل تجعل الخيارات الأردنية تتراوح بين خيارين، أحلاهما مرٌ، كما يقال.
الحرب على الاستيطان وخططه يجب أن يكون مبدئيا وإلا ستتصاعد الطموحات الإسرائيلية
يتمثل الأول، في التصعيد على أساس استشعار الخطر الوجودي، والتعويل على وجود مساندة شعبية تشكل ضغطاً على الحلفاء التقليديين للأردن، في محاولة لاستعادة الروح المعنوية، التي تراجعت وتضررت كثيراً بعد الربيع العربي، ويبدو هذا الخيار غائماً نوعاً ما، لأن الوصول إلى النقطة الحرجة التي تدفع بتغيير المواقف، سيمثل طريقاً استنزافياً للأردن، وسيجعله يتعامل مع تحديات شتى، ومنها محاولات التأثير والمشاغلة تجاه الأردن من خلال اصطناع أزمات داخلية، تدور حول الجانب الاقتصادي الذي تخيم عليه أجواء متشائمة ومتوجسة، بعد الآثار الكبيرة التي نتجت عن جائحة كورونا.
أما الخيار الثاني فيذهب إلى تغيير التحالفات التقليدية للأردن، ويبدو أن الأردن الرسمي غير مرتاح لمثل هذه الخطوة، في ظل تعقيدات الموقف الحالية على المستوى الإقليمي، ووجود انعطافات محتملة في الأفق، ووضع التحالفات على الطاولة، يظهر مدى التعقد في واقعها والخطورة في مستقبلها، فالجميع تحت المعاناة والمصالح تتقاطع أحياناً، ولكنها تفترق كثيراً، وما يحدث من تطورات على الأرض السورية مثلاً، يظهر كيفية حدوث الانعطافات في التحالفات القائمة.
لا يمكن أن تقبل الأردن بتسوية تجور على مصالحها، بل وتؤسس لتهديدات وجودية يحملها اليمين الإسرائيلي الذي في حالة نجاحه في ترحيل مشكلة الضفة إلى الأردن، بوضعه تحت ضغوطات سكانية وإنسانية متصاعدة ودفعه إلى الدخول مضطراً في ترتيب فوضى الاستيطان، وما يعرفه الأردن ويتحضر له هو تلك الشهية المفتوحة لليمين الإسرائيلي والمتجذرة في خطابه، التي لا ترى في كل ما يحدث إلا مجرد مرحلة ستتبعها خطوات أخرى في حالة تحقيق نجاحه في مخططاته تجاه الضفة والأردن.
عقيدة المستوطنة الإسرائيلية لن تتفكك، إلا مع استبدالها بتأسيس المملكة المتخيلة في المنطقة، والحرب على الاستيطان وخططه وتدابيره يجب أن يكون مبدئياً وجذرياً، وإلا ستتصاعد الطموحات الإسرائيلية في التحول من مستوطنة إلى مملكة.