في بداية السنة الخامسة للثورة/ المأساة/ المحنة السورية ربما يتوق النظام نفسه لأن يثور هاتفاً «حرية… كرامة» بعدما أصبح تحت الاحتلال الايراني. اذ لا يمكن الحلقة العسكرية الضيقة للنظام أن تدّعي أنها أحسنت ادارة الأزمة، حين افتعلت حرباً ومؤامرة حيث لا حرب ولا مؤامرة، وحين استدرجت الشعب من تظاهرات الـ «سلمية… سلمية» الحقيقية الى التعسكر وحمل السلاح، وحين قتلت مواطنين بالسلاح الكيماوي ثم سلّمت ترسانتها ثمناً لبقاء النظام، وحين استقدمت تنظيم «داعش» ليشاركها الإجهاز على المعارضة قبل أن ينقلب عليها، وحين اقتلعت السكان من حواضرهم العريقة وشرّدت نصف الشعب بين الداخل والخارج، وحين سوّلت لها لاأخلاقية «مقاومتها» و «ممانعتها» أن تقصف الأحياء السكنية بالبراميل المتفجرة… فالزمرة التي ترتكب كل هذه الفظاعات لا عجب أن تستبدل قاسم سليماني ببشار الاسد، بعدما يئست من قدراتها النارية التي لم تستطع، على رغم تفوّقها، أن تحقق أي نصر حقيقي يستعيد ما كان أو يعيد عقارب الساعة الى ما قبل 15 آذار (مارس) 2011.
بلى، كانت هناك ادارة للأزمة اتقنتها روسيا بانتهازية خالصة فوضعت قضية سورية على طاولة الروليت البوتينية وقامرت أولاً الشعب وستقامر برأس النظام عندما تحين الفرصة. وكانت أيضاً ادارة نفّذتها عدوانية ايران ذهبت أبعد من روسيا، فصنعت «المؤامرة» على سورية وخاضتها حرباً على الشعب السوري، لكي تفوز أخيراً بهذا الاحتلال، بل راحت تطالب أخيراً بـ «ضمانات سيادية» ببلايين الدولارات لتواصل تمويل النظام والحفاظ عليه. أي أن الايرانيين باتوا يلزمون النظام بدفع «رهنية» في مقابل إبقائه وربطه ببقاء الاحتلال. وعلى رغم أن المواجهة لم تتطيّف في لغة الثورة وثوارها، إلا أنها اصطبغت باللون الطائفي الفاقع مع دخول الايرانيين من «الحرس الثوري» مع الميليشيات الشيعية كـ «حزب الله» و «أبو فضل العباس» الى جانب مقاتلين أفغان وباكستانيين ومن جنسيات اخرى، ليعملوا جميعاً على تهجير السوريين من مواطنهم وبيوتهم.
كل المعارك التي استهدفت تثبيت النظام بقوة السلاح لم تستطع اثبات جدارته أو شرعيته كي يحكم سورية، فكل ما بذله مع حلفائه كان يمعن يوماً بعد يوم في إلغاء تاريخ البلد وطمس معالمه وتغيير تركيبته السكانية. إنهم يحاولون إعادة تأسيس سورية وقولبتها بحسب النمط المذهبي الذي يناسبهم، ويعملون على ترسيخ إسقاط حقوق «الغائبين» كأنهم لم يكونوا ولا كانت لهم مُلكيات ولا عقارات ولا أي مساهمات في أنسنة الأماكن، أو كأن هذه كلّها صارت مجرد غنائم حرب في كنف الغزاة. تصرفوا بأساليب تنظيم «داعش»، قبل أن يوجد، بل إنه استوحى وحشيته من وحشيتهم، وعلى رغم انقلابه على النظام وايران اللذين اجتذباه الى سورية ووفّرا له تسهيلات الانتشار واختراق مناطق «الجيش الحرّ» فإن «داعش» لا يزال يشاركهما العداء للشعب السوري واعتباره مصدر الخطر على وجوده ووجودهما. لكن النظام وايران يتوقّعان الآن أن ينجح رهانهما الأساسي، من خلال ابتزاز «التحالف ضد الارهاب» والمفاوضات النووية، ليكون الخيار بين النظام و «داعش» محسوماً لمصلحة النظام. لكن هذا ليس خياراً ولا يمكن أن يكون.
طوال الأعوام الأربع عمل النظام، بدافع من غرائزه وبدفع من الايرانيين، على إحباط أي حلول لا تعاود تكريس سلطته وسطوته وتشبيحيته كما كانت. لم يعط أذناً صاغية لكل صوت عربي أو غربي دعاه الى وقف القتل واقتراح الحلول وقيادة تنفيذها بنفسه. وعندما طُرحت مبادرة الجامعة العربية وشكّلت الوسيلة المثلى بالنسبة اليه، خصوصاً أنها كانت متكاملة، لم يستطع هذا النظام أن يتنازل عن الحد الأدنى، وهو وقف العنف. وبعدما تدوّلت الأزمة جاءه المبعوث الأممي الأول كوفي انان بنقاطه الست التي لم يتردد النظام في اسقاط أولاها، وهي وقف إطلاق النار. ومع المبعوث الثاني الأخضر الابراهيمي أسقط «الحل السياسي». وها هو يُسقط الدور الأممي نفسه مع المبعوث الثالث ستيفان دي ميستورا. واختار الأخير أن ينال مباركة ايران لتحركه فزار سفارتها في دمشق للتهنئة بعيد الثورة الايرانية يوم ارتكب النظام احدى أبشع المجازر في دوما، كما تطلع الى مباركة من بشار الأسد فأطلق عبارته المجانية («الأسد جزء من الحل»)، وسيضطر دي ميستورا لاستهلاك كل رصيده من النفاق كي يملأ الوقت في مهمة يعرف مسبقاً أنها لن تحقق أي اختراق، وكي يفهم أن الأسد جزء من حل لم يرده اطلاقاً.
ليس في المحنة السورية سوى قصة نجاح واحدة هي الصرخة الأولى التي هزّت جبروت النظام وأنذرته بأن نهايته بدأت. نجاح تضرّج بالدم لكنه أثبت مع الوقت أنه قوة دفع لم تشهدها سورية على مرّ عقود خمسة. ففي تلك اللحظة سجّل النظام فشله السياسي، ومذّاك وهو يحاول اصلاح الخطأ بمسلسل من الأخطاء. أما «النجاح» الآخر فقد يحسب – حتى الآن – للايرانيين، والمستقبل وحده سيبيّن اذا كانت استراتيحية التخريب المنهجي يمكن أن تعاكس التاريخ وتكون مجدية. وأما الفشل الآخر فهو بالتأكيد للمعارضة التي قُبلت كل الأعذار لتفهّم ظروفها وعاهاتها الناجمة عن ممارسات النظام، ولم يعد أي من الأعذار كافياً لتبرير التناحر والتنافر بين شخوصها رغم هول الكارثة داخلياً وانكشاف زيف الدعم وقصوره خارجياً، فبعد أربعة أعوام من المآسي وخيبات الأمل لا شيء يمكن أن يبرر العجز عن بلورة كيان للمعارضة يحظى بقبول وطني، خصوصاً أن وطأة الواجبات ثقلت وأن المهمات ازدادت جسامة. كان الهدف تحرير سورية من نظام دموي مستبد وأصبح تحرير سورية من هذا النظام ومن الاحتلال الايراني.
صحيح أن هناك محاولات بذلت أخيراً وتبذل حالياً لانتاج تفاهم بين معارضتي الداخل والخارج، إلا أنها لم ترقَ الى مستوى تشخيص الأزمة ببعدها الايراني على الأرض، وبالأجندة الايرانية التي بلغت الآن ذروة أهدافها العدوانية. واذا كان الهدف من لقاءات القاهرة تركيب جسم معارض لانعاش المبادرة الروسية وتصحيحها، على قاعدة القبول بحل سياسي مع وجود «موقتاً» للاسد، فهل يمكن أحداً أن يؤكد أن روسيا وحدها قادرة على تسويق أي حل على الاطلاق اذا لم يحظَ بموافقة ايرانية. هناك عواصم تؤيد حلاً سياسياً يحافظ على الدولة والجيش والمؤسسات، وتريد مساعدة المعارضة فيما تحتفظ بحدٍّ أدنى من العلاقة مع النظام، ولأنها لا تملك أي أوراق لإقناعه بحلٍّ لا يريده أو لإقناع ايران بتعديل توجّهاتها فإنها تحاول الضغط على المعارضة لتقدّم تنازلات لا تملكها أصلاً.
اذا لم تدرك هذه العواصم أن قضية سورية، كما هي راهناً، باتت قضية احتلال مثلها مثل قضية فلسطين، فإن مقاربتها لها ستبقى سطحية وستدفع الشعب السوري نحو الضياع. لم يعد كافياً تركيب معارضة لمحاورة نظام لم يعد يملك قراره، بل ان المطلب نمط مطوّر من «منظمة التحرير»، لأن الواقع ينبئ بأن الحرب التالية لا بدّ أن تكون حرب تحرير سورية من الاحتلال الايراني. فثمة أوساط في المعارضة تترقب الاتفاق النووي والتفاهمات الاميركية – الايرانية بشأن أوضاع الاقليم، متوقعة أن تحصل طهران في سورية على ما سبق أن حصلت عليه في العراق، ما يمنحها تفويضاً لـ «شرعنة» احتلالها في مقابل أن تحترم متطلّبات «أمن اسرائيل».
الحياة اللندنية: عبدالوهاب بدرخان