لم يعد الحج نحو موسكو يقتصر على دول الخليج، بل كانت تركيا تسبقها قبل “الصدام” العسكري الذي حدث. ولأن موسكو حاجةٌ، فقد عادت تركيا إلى الحج إليها. لا شك في أن تحولات الوضع الدولي تفرض ذلك، حيث أن الميل التركي إلى التحوّل قوةً عالميةً فرض الذهاب نحو روسيا التي تبدو منافساً (وليس عدواً) لأميركا. وفرضت أزمة أميركا الاقتصادية، وتخوفها من “نهوض الصين”، الميل إلى التحالف مع إيران، ما أخاف دول الخليج، فدفعها إلى الميل نحو روسيا، والحج المستمر إلى موسكو.
نحن، إذن، في سيولة في الوضع الدولي، نتيجة الأزمة الاقتصادية العميقة التي ضربت الرأسمالية وأميركا خصوصاً. وقد فرضت هذه السيولة محاولاتٍ لتأسيس تحالفاتٍ جديدة، انطلاقاً من مصالح كل دولة، حتى التي تخضع لسيطرة أميركية، حيث أن “ضعف يد” أميركا بات يسمح بذلك.
ما علاقة ذلك بالوضع السوري؟ أثار تراجع تركيا عن صدامها مع روسيا حول سورية شكوكاً بشأن القبول التركي ببقاء بشار الأسد، ضمن صفقة المصالحة التي تحققت. لكن، قبل ذلك، كانت تركيا في “تحالف” مع روسيا، على الرغم من الخلاف حول سورية، وهو خلاف كان يبدو عميقاً، نتيجة التنافس على سورية، لأنها من منظور كل منهما مفصل في سياساتهما، روسيا للهيمنة على “الشرق الأوسط”، وكذلك تركيا. وربما كان التصعيد التركي ضد روسيا قد أوحى بجدية تركيا للتدخل في سورية، بالتالي، كان تراجعها يشير إلى خسرانها، ومن ثم قبولها السيطرة الروسية على سورية. وهذا ما يظهر من تأكيدها على محورية الدور الروسي في سورية، وهو اعتراف بـ “الأمر الواقع”، لم تكن تركيا تريده سابقاً. لكن، هل يوصل ذلك إلى قبول الحل الروسي في سورية، والقائم (إلى الآن) على بقاء بشار الأسد؟
ما يهمّ تركيا، أولاً، هو مصالحها في سورية، حيث حصلت من بشار الأسد على امتيازاتٍ اقتصادية كبيرة، بما في ذلك تسهيل مرور السلع التركية إلى السعودية ودول الخليج، إضافة إلى مشاريع اقتصادية، وتسهيل دخول السلع التركية إلى السوق السوري. لهذا، سيكون التفاهم الأساس مع روسيا حول ما يمكن أن تتحصل عليه تركيا، بعد الإقرار بالسيطرة الروسية على سورية. وما تتحصل عليه هو الذي سيحدّد مدى قبولها الحل الروسي بكل تأكيد، لكن هذا لا يعني ألا يكون مصير الأسد مطروحاً، حيث أظن أن تركيا تفضّل رحيل الأسد، على الأقل، للقول إنها حققت شيئاً ما “يخدم الشعب السوري”، ويعزّز من مصداقيتها.
من جهة أخرى، تركز السعودية على علاقتها المميزة مع روسيا، وتؤكد أنها تسعى إلى تطويرها، على الرغم من الخلاف حول المسألة السورية. ولا شك في أن تخوفها من التقارب الأميركي الإيراني يدفعها إلى أن تعزّز تقاربها مع روسيا، وتطوير علاقتها بها، مع أن العلاقات الاقتصادية ليست أساسية هنا، بعكس تركيا التي أصبحت روسيا البلد الثاني، بعد الاتحاد الأوروبي ككل، في التبادل التجاري والعلاقة الاقتصادية. وما يبدو أن السعودية تصرّ على رحيل الأسد، ليس لخلافٍ شخصي، فقد دعمته سنتين بعد الثورة، مالياً وتكتيكياً، خصوصاً في الأسلمة وتفكيك قوى الثورة، لكنها وجدت أن ضعف النظام فرض بدل الوصول إلى حل سياسي تدخلاً عسكرياً إيرانياً كثيفاً، أفضى إلى السيطرة على القرار السياسي في دمشق. هذا الأمر بالتحديد هو الذي فرض انقلاب الموقف السعودي، والتمسك برحيل الأسد.
ونتيجة الميل إلى التقارب الأميركي الإيراني، سعت دول الخليج إلى تطوير علاقتها مع روسيا، على الرغم من اختلاف موقفها من رحيل بشار الأسد، حيث أن بعضها ليس معنياً بذلك. لكن كمجموعة يبدو أنها أميل إلى التأكيد على رحيل الأسد. وتحالف روسيا مع كل هذه الدول مغرٍ لها، وبالتالي، قد يدفعها إلى قبول رحيل بشار الأسد، ما دامت كل هذه الدول قد قبلت بـ “دورها” السوري. على الرغم من أن العنجهية الروسية التي تريد “تعليم العالم” أنها تفرض ما تريد، يمكن ألا توصل إلى ذلك، على أمل قبول كل هذه الدول بحلها. ربما فقط اليأس من حسم عسكري هو ما يجعلها تقبل بما تحقق.
العربي الجديد