المعارضة العنوان العريض المكتوب على الجدار بأحرف كبيرة للتصحر السياسي في سورية، ولم تغير الثورة السورية وأكلافها الدموية الكبيرة على مدار أربع سنوات من صورة هذا التصحر شيئاً. الثورة السورية مدهشة بكل المقاييس، ليس لتصدي المتظاهرين للقمع بالرصاص الحي بالصدور العارية، وليس لمواجهة نظام معروف بدمويته المجربة في مجازر حماة في ثمانينيات القرن الماضي فحسب، بل جاء إدهاشها من شموليتها كل المدن السورية أيضا، وباتت كل مواقع التظاهر مركزية في مواجهة نظام احتلالي وحشي في قمعيته.
منذ البداية، النظام لم يناور، كانت له استراتيجية واحدة، هي القتل، هو الرد على أي نوع من الاحتجاجات، فالنظام الأمني لم يستخدم لا خراطيم المياه، ولا القنابل المسيلة للدموع. منذ البداية، كان الرصاص حله الوحيد. هذا ما أظهره بوصفه نظاماً متخشباً سياسياً، إذ لم يحاول أن يقدم أي تنازلات سياسية جزئية، من أجل تخفيف حدة الاحتقان، أو للعمل على التهدئة بالوسائل السياسية، واعتبر ذلك نوعاً من الضعف الذي يثبت عكسه بالقمع الوحشي، بذريعة وجود مؤامرة تستهدف سورية، وهي الرواية الثابتة التي غردها النظام منذ اليوم الأول.
عندما انطلقت الثورة السورية، كان التصحر السياسي في سورية قد بلغ ذروته، فحافظ الأسد الذي قطع رأس السياسة في سورية، دمر المعارضة بكل طيفها السياسي، من الإسلاميين إلى اليساريين، بالقتل أو بالسجن المديد سنوات طويلة. حتى أنه سجن أصدقاءه في الحكم السابق على انقلابه، حتى وفاتهم. هذا كان مصير صلاح جديد والرئيس السابق نور الدين الأتاسي الذي أخرجه قبل ثلاثة أشهر من وفاته، بعد أن فتك مرض السرطان بجسده… وغيرهما كثير. ومن تبقوا، حوّلهم إلى إمّعات في الجبهة الوطنية التقدمية، بمنحهم امتيازات متواضعة في وزارات هامشية، ومكاسب تافهة، وكان ثمنها أن تخرج هذه الأحزاب فعلياً من الساحة السياسية.
مع التوريث لبشار الأسد، هناك من صدق وعداً كاذباً بالانفتاح السياسي، فكان ربيع دمشق الذي تم دفنه، قبل تبرعم أزهاره، باعتقال أبرز رموزه، وزجهم في السجون. لم يأتِ ربيع دمشق من حركة سياسية منظمة، أو يُولّد حركة سياسية منظمة. فقد جاء هذا الربيع الدمشقي من بيانات وقعها أشخاص، لا يجمع بينهم جامع سياسي أو تنظيمي، سوى التوقيع على هذه البيانات. لم يكن هناك أي إطار منظم فاعل في الحياة السياسية السورية، في اللحظة التي سميت ربيع دمشق، باستثناء قوى يسارية هامشية ومدمرة، تسعى إلى إعادة بناء نفسها من دون نجاح، بتغيير اسمها، كما فعل الحزب الشيوعي المكتب السياسي، أو محاولة جمع شراذم من حزب العمل الشيوعي، لإعادة أحيائه. وبالاعتقالات التي شملت كل البارزين في التحرك، عاد ليتأكد الوضع، بوصفه امتدادا لإنجاز الأسد الأب، بوصف السياسة مقطوعة الرأس في سورية.
الإبداع الجديد الذي جاء به الأسد الابن بالنسبة إلى المعارضة، أنه غير قواعد الاعتقال. كان الاعتقال السياسي، في زمن الأب، يقوم على التوقيف العرفي، ويحدد هؤلاء في السجون، بوصفهم معارضة سياسية، من دون تسميتهم كذلك. لكن، يتم التعامل معهم على هذا الأساس، حتى عند مفاوضتهم لإطلاق سراحهم، عبر الأدوات الأمنية. ما زاده الابن أنه بات يحاكم هؤلاء بوصفهم مجرمين عاديين، يزج بهم في السجون مع القتلة واللصوص وتجار المخدرات. وفي مرات عديدة، تم توظيف هؤلاء من أجل الاعتداء عليهم في السجون، لمزيد من الإذلال.
كانت سورية، إذن، عشية الثورة، خالية من أي معارضة سياسية منظمة ذات وزن، على الرغم من اعتقال أكثر من 300 ألف سوري على خلفية سياسية ثلاثين عاما من حكم الأسد الأب. كانت هناك أصوات قليلة انتقادية، لكنها فردية، يحسب لها جرأة استثنائية. أما حقل السياسة، بوصفه مكاناً لتفاعل القوى السياسية وصراعاتها، فكان فائق التصحر.
لم يكن هناك أي قوى سياسية وراء الاحتجاجات التي اجتاحت المدن السورية، قامت هذه الاحتجاجات بمبادرات محليةٍ، من نشطاء ولدوا في قلب الثورة نفسها، فقد جلبت الثورة إلى ساحة الفعل السياسي السوري، في أشهر قليلة من انطلاقتها، عشرات آلاف الناشطين السياسيين الذي لم يكونوا على صلة بالسياسة من قبل. وهؤلاء هم من شكلوا النواة الصلبة للاحتجاجات، في مواجهة سلطة غاشمة، وكان من الصعب على السلطة اعتقالهم، لأنهم جاءوا من خارج البنى السياسية التقليدية للعمل السياسي السوري. جاءوا من قلب المجتمع إلى السياسة، بصرف النظر عن مستوى وعيهم السياسي، لكن أداءهم الميداني كان مذهلاً. لم يعكس هذا الأداء الميداني نفسه في هيكلة سياسية تعبر عن المطالب الشعبية السورية، وصولاً إلى عمل منظم على مستوى البلد ككل. في الوقت نفسه، استهدف النظام، بحسه الأمني، النشطاء الميدانيين، بوصفهم الخطر الحقيقي عليه. لذلك، كان الاعتقال والقنص في كل المدن والأرياف السورية يستهدف هؤلاء النشطاء تحديداً، وهم عمليا زهرة شباب سورية التي قصف النظام عمرها قبل أن تثمر.
“لا تبدو الثورة يتيمة العالم الذي لا يريد أن يراها، بل ويتيمة المعارضة التي لم ترتقِ إلى مستوى التضحيات السورية“
بقيت المعارضة السياسية التقليدية وشخصياتها تمارس السياسة، كما لو أن شيئا لم يحدث في سورية، ولم يكن العنوان هو الانقسام بين هيئة التنسيق التي تعتبر نفسها معارضة داخلية، رفعت شعارات ساذجة وغريبة “لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل العسكري”، ومعارضة خارجية، سرعان ما دعت إلى تدخل خارجي لإطاحة النظام. في مقابل المعارضة الداخلية المرتبكة والخائفة، والتي لا ترى بديلاً عن النظام، كان النموذج الآخر الذي بدأ بتأسيس المجلس الوطني، بضغوط خارجية، ومن ثم تأسيس الائتلاف الوطني السوري، بضغوط خارجية أيضاً. وعلى الرغم من الكلام الثوري والكبير لقادة الائتلاف، لم يكن لطرفي المعارضة علاقة ملموسة مع فعاليات الاحتجاج الميدانية. وشكلت إطارات سياسية بلا أنياب، بعد تسلح الثورة السورية، حيث لا يوجد للائتلاف أي قوات عسكرية، فهو رأس مفصول على البنية العسكرية التي عمت سورية، والتي ذهبت باتجاهات إسلامية وإسلامية جهادية. حتى على مستوى النشطاء السياسيين والتحركات الاحتجاجية، بقي الائتلاف جسماً غريباً فوقياً، لا يسيطر على أي من القوى الميدانية، حيث تتحدث قيادته باسم المحتجين، من دون صلة فعلية بهم، فكان إطاراً خارجياً بعيداً كل البعد عن روح الثورة السورية. وما زاد الطين بلة أن هذه الإطارات غرقت في صراعات داخلية، وتشهير بين أقطابها، ولم تستطع الدماء السورية النازفة لجمهم عن إخراج أسوأ أنواع الصراعات الداخلية بينهم، عززها ارتهان إلى قوى إقليمية، والأنكى أن قادة الائتلاف ينتقدونه، وكأنهم ليسوا جزءاً منه.
لم تكن المعارضة، بكل طيفها السياسي، على مستوى حدث الثورة السورية، ومن كان يمكن أن يكون بديلاً سياسياً محتملاً من شباب الحراك الميداني، تم استئصاله، إما بالقنص أو ابتلعته المعتقلات السورية. واليوم، لا تبدو الثورة يتيمة العالم الذي لا يريد أن يراها، بل ويتيمة المعارضة التي لم ترتقِ إلى مستوى التضحيات السورية، والتي لا تزال تعيش في زمن الأسد الأب. بمعارضة ارتقت إلى مستوى الدم السوري المسفوك، كان يمكن أن نرى مصيراً مختلفاً للثورة السورية، لكن التاريخ قاسٍ ولا يرحم، ولا بد لقسوة التاريخ أن تسجل أن ما تسمى معارضة سورية كانت كعب آخيل الثورة، وأحد أسباب مآسيها المستمرة إلى اليوم، طبعاً بعد المسؤولية الكبرى لنظام الإجرام في دمشق.
منذ البداية، النظام لم يناور، كانت له استراتيجية واحدة، هي القتل، هو الرد على أي نوع من الاحتجاجات، فالنظام الأمني لم يستخدم لا خراطيم المياه، ولا القنابل المسيلة للدموع. منذ البداية، كان الرصاص حله الوحيد. هذا ما أظهره بوصفه نظاماً متخشباً سياسياً، إذ لم يحاول أن يقدم أي تنازلات سياسية جزئية، من أجل تخفيف حدة الاحتقان، أو للعمل على التهدئة بالوسائل السياسية، واعتبر ذلك نوعاً من الضعف الذي يثبت عكسه بالقمع الوحشي، بذريعة وجود مؤامرة تستهدف سورية، وهي الرواية الثابتة التي غردها النظام منذ اليوم الأول.
عندما انطلقت الثورة السورية، كان التصحر السياسي في سورية قد بلغ ذروته، فحافظ الأسد الذي قطع رأس السياسة في سورية، دمر المعارضة بكل طيفها السياسي، من الإسلاميين إلى اليساريين، بالقتل أو بالسجن المديد سنوات طويلة. حتى أنه سجن أصدقاءه في الحكم السابق على انقلابه، حتى وفاتهم. هذا كان مصير صلاح جديد والرئيس السابق نور الدين الأتاسي الذي أخرجه قبل ثلاثة أشهر من وفاته، بعد أن فتك مرض السرطان بجسده… وغيرهما كثير. ومن تبقوا، حوّلهم إلى إمّعات في الجبهة الوطنية التقدمية، بمنحهم امتيازات متواضعة في وزارات هامشية، ومكاسب تافهة، وكان ثمنها أن تخرج هذه الأحزاب فعلياً من الساحة السياسية.
مع التوريث لبشار الأسد، هناك من صدق وعداً كاذباً بالانفتاح السياسي، فكان ربيع دمشق الذي تم دفنه، قبل تبرعم أزهاره، باعتقال أبرز رموزه، وزجهم في السجون. لم يأتِ ربيع دمشق من حركة سياسية منظمة، أو يُولّد حركة سياسية منظمة. فقد جاء هذا الربيع الدمشقي من بيانات وقعها أشخاص، لا يجمع بينهم جامع سياسي أو تنظيمي، سوى التوقيع على هذه البيانات. لم يكن هناك أي إطار منظم فاعل في الحياة السياسية السورية، في اللحظة التي سميت ربيع دمشق، باستثناء قوى يسارية هامشية ومدمرة، تسعى إلى إعادة بناء نفسها من دون نجاح، بتغيير اسمها، كما فعل الحزب الشيوعي المكتب السياسي، أو محاولة جمع شراذم من حزب العمل الشيوعي، لإعادة أحيائه. وبالاعتقالات التي شملت كل البارزين في التحرك، عاد ليتأكد الوضع، بوصفه امتدادا لإنجاز الأسد الأب، بوصف السياسة مقطوعة الرأس في سورية.
الإبداع الجديد الذي جاء به الأسد الابن بالنسبة إلى المعارضة، أنه غير قواعد الاعتقال. كان الاعتقال السياسي، في زمن الأب، يقوم على التوقيف العرفي، ويحدد هؤلاء في السجون، بوصفهم معارضة سياسية، من دون تسميتهم كذلك. لكن، يتم التعامل معهم على هذا الأساس، حتى عند مفاوضتهم لإطلاق سراحهم، عبر الأدوات الأمنية. ما زاده الابن أنه بات يحاكم هؤلاء بوصفهم مجرمين عاديين، يزج بهم في السجون مع القتلة واللصوص وتجار المخدرات. وفي مرات عديدة، تم توظيف هؤلاء من أجل الاعتداء عليهم في السجون، لمزيد من الإذلال.
كانت سورية، إذن، عشية الثورة، خالية من أي معارضة سياسية منظمة ذات وزن، على الرغم من اعتقال أكثر من 300 ألف سوري على خلفية سياسية ثلاثين عاما من حكم الأسد الأب. كانت هناك أصوات قليلة انتقادية، لكنها فردية، يحسب لها جرأة استثنائية. أما حقل السياسة، بوصفه مكاناً لتفاعل القوى السياسية وصراعاتها، فكان فائق التصحر.
لم يكن هناك أي قوى سياسية وراء الاحتجاجات التي اجتاحت المدن السورية، قامت هذه الاحتجاجات بمبادرات محليةٍ، من نشطاء ولدوا في قلب الثورة نفسها، فقد جلبت الثورة إلى ساحة الفعل السياسي السوري، في أشهر قليلة من انطلاقتها، عشرات آلاف الناشطين السياسيين الذي لم يكونوا على صلة بالسياسة من قبل. وهؤلاء هم من شكلوا النواة الصلبة للاحتجاجات، في مواجهة سلطة غاشمة، وكان من الصعب على السلطة اعتقالهم، لأنهم جاءوا من خارج البنى السياسية التقليدية للعمل السياسي السوري. جاءوا من قلب المجتمع إلى السياسة، بصرف النظر عن مستوى وعيهم السياسي، لكن أداءهم الميداني كان مذهلاً. لم يعكس هذا الأداء الميداني نفسه في هيكلة سياسية تعبر عن المطالب الشعبية السورية، وصولاً إلى عمل منظم على مستوى البلد ككل. في الوقت نفسه، استهدف النظام، بحسه الأمني، النشطاء الميدانيين، بوصفهم الخطر الحقيقي عليه. لذلك، كان الاعتقال والقنص في كل المدن والأرياف السورية يستهدف هؤلاء النشطاء تحديداً، وهم عمليا زهرة شباب سورية التي قصف النظام عمرها قبل أن تثمر.
“لا تبدو الثورة يتيمة العالم الذي لا يريد أن يراها، بل ويتيمة المعارضة التي لم ترتقِ إلى مستوى التضحيات السورية“
بقيت المعارضة السياسية التقليدية وشخصياتها تمارس السياسة، كما لو أن شيئا لم يحدث في سورية، ولم يكن العنوان هو الانقسام بين هيئة التنسيق التي تعتبر نفسها معارضة داخلية، رفعت شعارات ساذجة وغريبة “لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل العسكري”، ومعارضة خارجية، سرعان ما دعت إلى تدخل خارجي لإطاحة النظام. في مقابل المعارضة الداخلية المرتبكة والخائفة، والتي لا ترى بديلاً عن النظام، كان النموذج الآخر الذي بدأ بتأسيس المجلس الوطني، بضغوط خارجية، ومن ثم تأسيس الائتلاف الوطني السوري، بضغوط خارجية أيضاً. وعلى الرغم من الكلام الثوري والكبير لقادة الائتلاف، لم يكن لطرفي المعارضة علاقة ملموسة مع فعاليات الاحتجاج الميدانية. وشكلت إطارات سياسية بلا أنياب، بعد تسلح الثورة السورية، حيث لا يوجد للائتلاف أي قوات عسكرية، فهو رأس مفصول على البنية العسكرية التي عمت سورية، والتي ذهبت باتجاهات إسلامية وإسلامية جهادية. حتى على مستوى النشطاء السياسيين والتحركات الاحتجاجية، بقي الائتلاف جسماً غريباً فوقياً، لا يسيطر على أي من القوى الميدانية، حيث تتحدث قيادته باسم المحتجين، من دون صلة فعلية بهم، فكان إطاراً خارجياً بعيداً كل البعد عن روح الثورة السورية. وما زاد الطين بلة أن هذه الإطارات غرقت في صراعات داخلية، وتشهير بين أقطابها، ولم تستطع الدماء السورية النازفة لجمهم عن إخراج أسوأ أنواع الصراعات الداخلية بينهم، عززها ارتهان إلى قوى إقليمية، والأنكى أن قادة الائتلاف ينتقدونه، وكأنهم ليسوا جزءاً منه.
لم تكن المعارضة، بكل طيفها السياسي، على مستوى حدث الثورة السورية، ومن كان يمكن أن يكون بديلاً سياسياً محتملاً من شباب الحراك الميداني، تم استئصاله، إما بالقنص أو ابتلعته المعتقلات السورية. واليوم، لا تبدو الثورة يتيمة العالم الذي لا يريد أن يراها، بل ويتيمة المعارضة التي لم ترتقِ إلى مستوى التضحيات السورية، والتي لا تزال تعيش في زمن الأسد الأب. بمعارضة ارتقت إلى مستوى الدم السوري المسفوك، كان يمكن أن نرى مصيراً مختلفاً للثورة السورية، لكن التاريخ قاسٍ ولا يرحم، ولا بد لقسوة التاريخ أن تسجل أن ما تسمى معارضة سورية كانت كعب آخيل الثورة، وأحد أسباب مآسيها المستمرة إلى اليوم، طبعاً بعد المسؤولية الكبرى لنظام الإجرام في دمشق.
سمير الزبن – العربي الجديد