تستحوذ السياسة الخارجية التركية على اهتمام النخب والشعوب العربية، وقد ازدادت أهمية متابعة مسارات وتحولات هذه السياسة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو 2016، في ظل وجود العديد من الإشارات على حدوث عدد من التغيرات والتحولات فيها، وفي مقدمتها العلاقة مع روسيا على هامش زيارة الرئس التركي رجب طيب أردوغان إلى العاصمة الروسية موسكو، والتي بدأت في التاسع من أغسطس الجاري.
ولعل مما زاد في أهمية الزيارة وحساسية جدول أعمالها حالة التوتر التي تسود علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الاطلسي، على خلفية عتب أنقرة لهؤلاء الحلفاء على مواقفهم “الرمادية” من الانقلاب ودور بعضهم المفترض فيه، وموقف واشنطن تحديداً من تسليم فتح الله كولن زعيم الكيان الموازي المقيم على أراضيها، والذي تتهمه الحكومة التركية بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية.
وفي إطار هذه الاعتبارات، فقد حملت الزيارة أجندات كبيرة وكثيرة ترتبط بمسار السياسة الخارجية التركية ورؤيتها على المدى البعيد، إذ لتركيا مصلحة واضحة في عودتها لسياسة خارجية متعددة المحاور كما لروسيا رغبة لا تخفى في محاولة احتواء تركيا واستقطابها بعيداً – نسبياً – عن سياسات الناتو تجاهها. كما أن جدول أعمال الزيارة تضمن بلا شك ملفات الاهتمام المشترك، وفي مقدمتها الأزمة السورية، حيث تراوحت بعض التحليلات المتعلقة بها من النقيض إلى النقيض، بين من يرون أن تركيا قد خضعت لشروط الدب الروسي في سوريا وبين من يرون العكس تماماً مع لحظة القوة التركية بعد فشل/إفشال الانقلاب.
بيد أن محورية الأزمة السورية في لقاء الرئيسين تبدو أمراً مبالغاً به حين توضع الزيارة في سياقاتها التاريخية والواقعية، إذ هي في نهاية المطاف إحدى خطوات التقارب بين البلدين على خلفية أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، بعد عدة خطوات سابقة منها رسالة اردوغان لبوتين في اليوم الوطني الروسي (التي تضمنت صيغة “الأسف” أو الحزن لمقتل الطيار الروسي) وتلبية وزير الخارجية التركي دعوة موسكو للمشاركة في مؤتمر التعاون الاقتصادي لدول حوض البحر الأسود في مدينة سوتشي الروسية، وغيرها.
وعليه، فالأجندة الرئيسة للقاء الرجلين هي العلاقات الثنائية والاقتصادية منها تحديداً قبل أي ملفات أخرى كما أشرنا في مقال سابق، باعتبار أن العامل الاقتصادي كان الأكثر إضراراً بالطرفين منذ القطيعة بينهما، وأنه كان الحافز الأبرز لكليهما لطي صفحة الخلاف. وهو عامل يشمل حجم التبادل التجاري الذي تراجع من مستوى 31 مليار دولار عام 2014 إلى ما يقارب 20 مليار دولار عام 2015 ويطمح الطرفان – سيما التركي – لرفعه إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2023 كما يشمل المشاريع الاستثمارية العملاقة بين الطرفين مثل محطة الطاقة النووية ومشروع “السيل التركي” للغاز الطبيعي ويضم أيضاً قطاع السياحة التركي والمشاريع التركية في قطاع الإنشاءات الروسي وغيرها. ولذلك فقد صبت معظم تصريحات الرئيسين في خانة إعادة تفعيل العلاقات الاقتصادية الثنائية وتطويرها.
أما الأزمة السورية التي طرحت على طاولة الحوار في اللقاء الثنائي الذي جمع بينهما، فمن الصعب توقع توافق البلدين على رؤية مشتركة إزاءها، على الأقل في المدى المنظور. صحيح أن الطرفين يحتاجان بعضهما البعض، وصحيح أنهما معنيان بتنسيق المواقف واحتواء كل منهما للطرف الآخر، لكن ذلك لا يعني أن خلافاتهما الجوهرية حول آلية الحل في سوريا قد تم تجاوزها. فما زالت تركيا ترى المشكلة في الأسد والحلَّ في رحيله ولو بعد الفترة الانتقالية، بينما تصر روسيا نظرياً وعملياً على حمايته ومهاجمة المعارضة “المعتدلة” وغير المعتدلة في سوريا ودعم المشروع السياسي الكردي – حتى الآن – في شمال سوريا.
الرغبة في تنسيق المواقف في سوريا هي ما دفع الجانبين لبلورة آلية بينهما للتواصل حول سوريا. ورغم أن ما تم الاتفاق عليه سيبقى وراء الأبواب المغلقة، إلا أننا نستطيع حصر إمكاناته في إطار عدد من المحددات أهمها:
أولاً: الملف السوري ليس الأولوية القصوى للجانبين، بل الملف الاقتصادي.
ثانياً: ما زالت الخلافات في الرؤية والرأي والسياسات بين الطرفين، قائمة وشديدة التعقيد وليس من السهل أن يتم حلها في أول لقاء يجمع بين الرئيسين.
ثالثاً: رغم ما يظهر من قوة في الموقف التركي بعد إفشال الانقلاب، إلا أن حجم الملفات الداخلية وإعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية لا تمكنان أنقرة من لعب دور فاعل في السياسة الخارجية سيما في الملفات العسكرية والأمنية في المدى المنظور.
رابعاً: الأولوية التركية في الساحة السورية – منذ شهور عديدة – هي المشروع الكردي في شمال سوريا المدعوم أمريكياً وروسياً، وبالتالي فإن أي “تنازلات” روسية لأنقرة ستكون على هذا الصعيد قبل أي استحقاق آخر، وهو أمر رشحت عنه بعض التقارير الإخبارية غير المؤكدة حتى الآن.
خامساً: رغم أن التدخل الروسي العسكري في سوريا (في أيلول/سبتمبر 2015) ثم أزمة المقاتلة الروسية التي سقطت فوق الأراضي التركية (نوفمبر 2015)ق د حدَّتا كثيراً من هامش المبادرة أمام أنقرة إلا أن الأخيرة ما زالت تملك إمكانية “تعطيل” وإفشال أي حلول لا ترضيها وتلمح مصالحها بما تملكه من أوراق قوة تتعلق بالحدود المشتركة والعلاقات مع مختلف أطياف المعارضة وغيرها، وهذا “الفيتو” الذي تملكه أنقرة يوازن دورها المتراجع هناك ويؤهلها للتفاوض مع الروس الفاعل الرئيس في سوريا.
سادساً: إن الخطوة التالية بالنسبة لأنقرة ستكون محاولة العودة للتواجد والفعل في الشمال السوري بالتنسيق مع موسكو تحت عنوان مكافحة تنظيم الدولة، بما يمكنها من مواجهته والحد من تقدم الفصائل الكردية المسلحة وضمان “منطقة آمنة مصغرة” في الواقع الميداني وإن لم تعلن بشكل رسمي من خلال القصف الجوي، بما قد يمكنها لاحقاً من مساندة المعارضة السورية، خصوصاً إذا ما استطاعت إقناع روسيا بالكف عن استهدافها لصالح استهداف تنظيم الدولة.
سابعاً: كلا الطرفين التركي والروسي يملكان أوراق قوة إضافة إلى جملة من المخاطر والمهددات، وبالتالي فالمكاسب أو التنازلات ستكون في الاتجاهين وفق عدة محددات في مقدمتها أوراق القوة والعامل الزمني والوضع الميداني ومواقف الأطراف الثالثة سيما الولايات المتحدة. هنا، سيزيد التقدم الأخير للمعارضة السورية على جبهة حلب من قوة الموقف التركي على طاولة التفاوض، لكنه لا يعني بالضرورة أن تركيا لن تقدم للروس بعض المكاسب مثل دعم المسار السياسي بكل مخرجاته والضغط على المعارضة السورية للتجاوب إذا ما احتاجت لذلك.
في الخلاصة:
إن خطوات التقارب التركي – الروسي تدور في المقام الأول حول المصالح المشتركة المباشرة وفي مقدمتها الاقتصادية، وتبقى الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية التركية للتداول على المدى البعيد. أما الملف السوري فلا ينبغي توقع تغيرات عميقة ولا سريعة فيه، بل لا يجب انتظار دور تركي متقدم فيه على المدى القصير دون ثمن تدفعه أنقرة لجارتها اللدودة. ولذا تبقى أهم أوراق القوة في يد المعارضة السورية هي وحدة العنوان وتوحيد الرؤية والعمل وفق استراتيجية واضحة والتحرر قدر الإمكان من شروط وتوجيهات الداعمين، فالميدان سيكون الأثقل وزناً كعامل محلي في توجيه العوامل الأخرى إذا ما استمر بنفس الوتيرة واستطاع الخروج عن المسار المألوف والمرسوم له (1).
سعيد الحاج – المعهد المصري للدراسات – ترك برس